من يترجم أفكار الملك؟

تلخص المفاهيم التي طرحها جلالة الملك في ورقته النقاشية السادسة، الفرق القائم بين الواقع والطموح. وبمعنى آخر، هي المسافة التي يتوجب علينا قطعها للوصول إلى المستوى المنشود، لدولة مدنية أساسها سيادة القانون.اضافة اعلان
والمسافة هذه لا تبدأ من نقطة الصفر أبدا؛ ففي الأردن مؤسسات قديمة وعريقة، وسلطات مستقرة، وتشريعات راسخة، وسلطة قانون قائمة باسم الدستور.
لكن على جميع هذه الصعد، نحن بحاجة للإصلاح والتطوير، وتفعيل القوانين، وسد الثغرات في الممارسة، وهي كثيرة. وقد أشار الملك لبعض مظاهرها.
وبسبب التردد في تطبيق القانون، وتنازل مؤسسات الدولة عن سلطاتها لصالح قوى اجتماعية، وإعاقة عملية الإصلاح، تحولت هذه المظاهر إلى ظاهرة عامة مقلقة وخطيرة.
سيسأل كثيرون، مثلما سألوا بعد كل ورقة نقاشية طرحها جلالة الملك؛ ما الذي يحول دون ترجمة أفكار الملك التي تدعمها الأغلبية الساحقة من الأردنيين، إلى سياسات وقرارات؟
هذا السؤال إذا لم تتعامل معه سلطات الدولة؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، بجدية بالغة، سيبادر المتصيدون إلى توظيفه للطعن بمصداقية الطروحات ذاتها، والتقليل من شأنها.
ومن الخطورة بمكان أن يترسخ الاعتقاد بأن هناك فجوة واسعة بين طموحات الملك وسلوك مؤسسات الدولة والطريقة التي تدير بها شؤون الناس. العمل على ردم الفجوة، يعني العمل وبشكل مدروس على تمثل هذه الأفكار والمبادئ في الممارسة، واختيار القيادات التنفيذية المؤمنة بها، وتمكين المؤسسات المعنية بفرض سلطة القانون، ومحاسبتها إذا ما قصرت أو تهاونت.
إن جوهر العملية الديمقراطية، كما قال الملك، هو التطبيق الدقيق للقانون، من دون انتقائية أو تحريف، وعلى الجميع من دون استثناء، وفي جميع الأوقات.
هذا ما لا يحدث حاليا؛ فكثيرا ما يخضع الأمر لاعتبارات سياسية أو جهوية وشخصية، فيفلت نافذون من المساءلة والمحاسبة، وتعجز سلطة القانون عن الوصول إليهم.
الملك لم يترك المفاهيم التي طرحها مجردة ونظرية هكذا، فقد دخل في التفاصيل، وعرض الخطوات الواجب اتخاذها على كل صعيد، سواء ما تعلق بصلاحيات السلطة التنفيذية أو دور المؤسسة القضائية، وصولا إلى الرأي العام المعني قبل غيره بسيادة القانون، وتكريس مبادئ الدولة المدنية باعتبارها الوجه الآخر لسلطة القانون.
ولا يمكن الفصل بين سيادة القانون، ونزاهة وكفاءة المؤتمنين على تطبيقه. في هذا الباب ثمة إشكاليات ظاهرة، ولا بد من معالجتها بطريقة حاسمة، لنضمن عدم توظيف القائمين على سلطة القانون نفوذهم لمصالح شخصية.
كان للتمييز في تطبيق القانون، والمحاباة في معاملة المواطنين، الأثر الأكبر في تراجع الثقة بالمؤسسات، وانهيار قيم الوظيفة العامة في القطاع العام، وانتشار الرشوة والواسطة، والتنمر على الأجهزة المعنية بإنفاذ القانون. فالمظالم الفردية المتراكمة، تخلق مع مرور الوقت شعورا جماعيا بالظلم، يتبدى يأسا وإحباطا وقهرا، ويترجم إلى عداء تجاه الدولة ومؤسساتها.
لن تجد مؤسسات الدولة صعوبة في ترجمة الأفكار التي طرحها الملك إلى واقع ملموس. فالأغلبية الساحقة من الأردنيين باتت تدرك، أكثر من أي وقت مضى، أهمية الدولة وسيادة القانون، وهي تعاين المشاهد المأساوية من حولنا لدول وشعوب تبكي دما بفعل تفريطها بسيادة القانون، وسلطة الدولة الواحدة.
يتعين علينا أن لا نركن للوضع القائم؛ فما من دولة في المنطقة بمنأى عن الفوضى، إلا من تأخذ على عاتقها العمل ليل نهار لتحصين دولة القانون، وصيانة علاقاتها بشعبها.
الورقة النقاشية السادسة، هي بمثابة دعوة لبدء ورشة صيانة الدولة الأردنية، لتبقى كما كانت دوما عصية على الاختراق.