من يرسم مستقبل العراق؟

     شهدت الأيام الأخيرة تسريبات صحافية وتصريحات متعددة حول تزايد احتمال الانسحاب الأميركي والبريطاني من العراق، وربما ساهمت أحداث لندن في تكريس قناعة لدى الرأي العام في كل من بريطانيا وأميركا بأنّ الحرب على العراق – خلافا للدعاية الرسمية- لم تجعل مواطني هذه الدول بمنأى عن أحداث العنف، بل خرجت عدة تحليلات إعلامية وسياسية تربط بين ما يجري في العراق وبين تفجيرات لندن. في حين كشفت صحف بريطانية عن وثيقة عسكرية بريطانية وأميركية تتضمن خطة عسكرية معدة لسحب أغلب القوات العسكرية من العراق خلال الشهور القليلة القادمة.

اضافة اعلان

     وإذا صحت التحليلات السابقة فسنكون أمام مفارقة تاريخية كبيرة، إذ يعد هذا الانسحاب المتوقع في حالات أخرى بمثابة النصر السياسي والعسكري للشعب الخاضع للاحتلال ويوما وطنيا لنيل الاستقلال والسيادة الكاملة وامتلاك أزِمّة القرار السياسي ونهاية الاحتلال العسكري، لكن الواقع العراقي لا يشير إلى أننا أمام هذا اليوم الموعود، بل أمام خطر أكبر من الاحتلال، وهو الفتنة الداخلية التي صعدت ملامحها للعيان. ويبدو الأمر وكأننا أمام حرب عصابات وعمليات متبادلة لا توفر طفلا أو شيخا أو مريضا أو امرأة ضحيتها هو الإنسان العراقي. في الأيام القليلة الماضية قام انتحاري بتفجير نفسه موديا بحياة عدد من المدنيين بينهم عدد كبير من الأطفال الصغار، بينما أعلن الوقف السني العثور على إحدى عشرة جثة تعود لعراقيين من السنة إحداها لإمام مسجد.

     لقد تمكن العراقيون في الفترة التي تلت الاحتلال من التغلب على أصوات المتطرفين والمتعصبين، ولعب علماء الدين دورا بارزا في احتواء الأزمات التي نشبت بعد كل محاولة اغتيال لرمز سني أو شيعي أو بعد حالات الصراع على المساجد بين أفراد الطائفتين. إلاّ أنّ يد الاغتيال لم توفر -في الشهور الأخيرة- حتى رجال الدين من السنة والشيعة، وقد وجدت جثث لأكثر من إمام سني وعليها آثار التعذيب، واتهمت القوى السنية ممثلة بهيئة العلماء المسلمين وإدارة الوقف السني في بغداد "منظمة بدر" الشيعية التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بأنها وراء اغتيالات الأئمة والمصلين من السنة. في المقابل أسس الزرقاوي (زعيم القاعدة في العراق) ما سماه "فيلق الفاروق" لمواجهة "فيلق بدر"، فتحولت العناوين الإسلامية لتصبح اسما حركيا لحرب أهلية وطائفية وعمليات قذرة تجتاح العراق وتقتل الناس في تجاوز لألف باء الأخلاق الإسلامية التي تصون دماء المسلمين وأعراضهم فيما بينهم، وتجعل من السلم الأهلي أمرا مقدسا لا يجوز الاعتداء عليه!.

    ومما يزيد الأمور سوءا ويدفع إلى قلق أكبر التقارير المتواترة حول عمليات التعذيب اللا إنسانية التي تتم بحق عراقيين لمجرد الاشتباه بعلاقتهم بالجماعات المسلحة، فهذا التعذيب أخذ منحى خطيرا بعيدا عن الرقابة الشرعية والمنطق القانوني والأخلاقي. في هذا السياق نشرت صحيفة "الأوبزرفر" تقريرا مرعبا (ترجمته "الغد" 12 تموز بعنوان سير حياة الشهداء العراقيين مدونة على أجسادهم) حول عمليات تعذيب بشعة للمعتقلين والمشتبه بعلاقتهم بالإرهاب، والغريب أن التقرير يقارن بين عهد صدام والفترة الحالية، ويتساءل كاتبه البريطاني فيما إذا كان العراق يسير باتجاه تقنين وشرعنة التعذيب، ثم يقول: "ما يصدم المرء أن ما حدث ويحدث، يمر تحت أنوف الرسميين البريطانيين والأميركيين، ويعترف البعض بعلمهم بالانتهاكات التي ترتكبها الوحدات التي تتمتع بالدعم المالي الدولي في حربهم القذرة".

     ربما أصاب كاتب التقرير في اختياره مصطلح "الحرب القذرة"، إذ أن كل المؤشرات تدل أن العراق يعيش مؤشرات لحروب عصابات أبعد ما تكون عن سيادة القانون والشرائع والأخلاق، هذه الحروب هي نتيجة طبيعية للتعبئة الاجتماعية والسياسية الطائفية السائدة اليوم، وما يسمى بالعمليات المسلحة والرد عليها، فهي بمثابة حرب عصابات متبادلة ستكون كفيلة بتحويل العراق إلى نموذج مرعب إذا ما صدقت التسريبات وانسحبت القوات الأميركية والبريطانية في وقت قريب.

    لا نطالب العراقيين اليوم بالانعتاق من القوالب الطائفية والعرقية بقدرة قادر، وأن يعودوا لمفهوم الجماعة الوطنية، فهذا مطلب نظري غير ممكن التحقق في الأمد القريب، لكن ما نطالب به العراقيين أن يضعوا ميثاق شرف يجعل من دماء المدنيين والأبرياء ومن الفتنة الأهلية خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه، وأن يكون هناك هيئة من القيادات الشعبية العراقية تحارب الخطاب التحريضي الطائفي في السياق الاجتماعي والثقافي، بنفس الوقت وضع حد لعمليات التعذيب والتنكيل في المعتقلات والسجون التي تساهم في التعبئة التحريضية وتتنافى مع منطق القانون والأخلاق.

     أخيرا لا أعرف إذا كان ممكنا الاستفادة من الفتوى التاريخية التي صدرت عن المؤتمر الإسلامي الدولي في عمان قبل مدة وجيزة والتي تمنع التكفير المتبادل بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، وتؤكد على حرمة دماء المسلمين بين بعضهم، فهذه الفتوى مهمة جدا في الواقع العراقي اليوم.