من ينهض بالفيلم الممثل أم المخرج أم القصة؟

من ينهض بالفيلم الممثل أم المخرج أم القصة؟
من ينهض بالفيلم الممثل أم المخرج أم القصة؟

عندما يغرد البطل خارج السرب

عمان - من ينهض بالفيلم الممثل أم المخرج أم القصة؟
هذه التساؤلات تأخذ وقتا وحيزا من تفكير طويل لا طائل من ورائه، لأن العمل الجماعي هو من ينتج الفيلم الجيد ويبقيه في الذاكرة.

اضافة اعلان

لكن هناك استثناءات دائما، وكما في كل شيء. ويمكن اعتبار هذا العام عام تميز السينما بأفلام قوامها الشخصية، سواء كانت منفردة وسط مجموعة أو جزءاً من المجموعة التي تشكل اساساً للفيلم.

 غير ان وقوف الشخصية محوراً لعمل ما لا يدل حتماً على اختلافه، كما أنه لا يؤكد حتماً نجاح الفيلم. وقد أثبتت بعض الافلام عبر تاريخ السينما أن براعة الممثل قد تكون الركيزة الاساسية وأحياناً الوحيدة لنجاح العمل.


فعلى سبيل المثال وفي محاولة للخروج عن الامثلة السائدة، يعتبر شريط جوزيف لوزي (الخادم) (the servant 1963) من سيناريو وحوار الكاتب الانكليزي هارولد بنتر مثالا حيا على أي مدى كانت براعة الممثلين ديرك بوغارد وجايمس فوكس أساساً لنجاح الفيلم. ولكن المثال نفسه يفضي لوجهة نظر اخرى.


فلو ان بوغارد وفوكس اجتمعا في فيلم آخر بحوار اقل ذكاء وعمقاً وبإدارة مخرج لا يملك ما يقوله عن موضوع الانحطاط الاخلاقي والتبادل الطبقي ما كان للفيلم أن يخلد.


ولعله من الجائز القول هنا ان اداء بعض الأدوار يخرج من عالم الفن، وبعضها الآخر يخرج عنه.


وفيلم العراب لسكوريزي وروبرت دينيرو مثال على الاول. حيث ان عالم الشخصيات فيه مكتمل، وبالتالي فإن أداء الممثلين يأتي من عالم الفيلم، وكأنه من غير الممكن ان يحتمل الفيلم مخاطرة الاداء المتوسط أو العادي.


لذلك تبدو كل شخصية ذات خصوصية، مكتوبة بتفاصيلها حتى اصغرها مساحةً على الشاشة.


والامر نفسه ينطبق على مجموعة كبرى من الافلام منذ (المواطن كاين)، مروراً بـ (الثور الهائج) ووودي آلن وحتى (عصابات نيويورك).


مخرج برؤية خاصة


وهذا المسح العام جداً يؤكد صفة واحدة على الاقل مشتركة بين الافلام، هي وقوف مخرج ذي رؤية خاصة خلفها، وليس مخرجاً مأجوراً. أي وقوف سينمائي حقيقي - سواء أُغرمنا بسينماه أم كرهناها.


ويتفرع أيضاً من هذا النوع، أي التمثيل من داخل الفيلم، سينما مخرجين شكلوا محطات عبر تاريخ السينما: فيلليني، بيرغمن، تاركوفسكي وسواهم. ومن الصعب مثلاً أن نقيّم أداء مارتشيللو ماستروياني في أفلام فيلليني خارج عالم الفيلم.


انه أداء متصل بعالم فيلليني السينمائي الذي يبدو مارتشيللو جزءاً منه، طبيعياً وحاضراً من دون أن يجذب إليه الانظار في كل مرة. غير أنه من الصعب أن يمر حديث على فيلليني من دون ذكر مارتشيللو.


إنه الاداء الجزئي، إذا جاز التعبير، الذي يكتمل مع كل إضافة إليه. يختلف الامر قليلاً بالنسبة إلى بيرغمن واهتمامه بالجانب النفسي للانسان، ما يتطلب اداءً مكثفاً يكتسب قيمته من علاقته بعالم المخرج وسينماه. وكي لا يبدو الامر وكأنه حكر على سينما قديمة او على مخرجين معينين، نضيف إلى اللائحة ادوارد نورتن وبراد بيت في (fight club) لديفيد فينشر.


وإذا سلمنا جدلاً أن الممثل يعثر على مساحة تعبير كبرى أمام مخرج يمتلك خصوصية، وكأنه يجد فيه نصفه الآخر على الشاشة، فإن ما هو عكس ذلك يولد نوعية أداء من خارج الفيلم. والامثلة عديدة لا تُحصى. يكفي أن نتذكر كم مرة شاهدنا افلاماً عادية او اقل من عادية ولفت انتباهنا أداء ممثل في دور رئيسي أو حتى ثانوي.


فعندما يتميز ممثل وحيد في عمل كامل، لا سيما إذا كان في دور ثانوي، فإن ذلك اشارة مؤكدة إلى فشل الفيلم في نواحٍ عدة، ومؤشرا إلى أداء من خارج عالم الفيلم تفوق الممثل فيه وحيداً.

 بوب هوسكنز في فيلم خادمة في مانهاتن المثال الاكثر طزاجة في الذاكرة. بالطبع هذا مثال متطرف لأنه يستغل المفارقة: ممثل قدير جداً في فيلم فاشل جداً. لذا سنضيف إلى القائمة ايان ماكلين في فيلم x-men 2.


الامثلة الاقل تطرفاً يمكن ان تكون من نوع: مايكل كاين في the cider house rules.

 وهذا المثال اقل تطرفاً لان الفيلم ليس فاشلاً وأداء كاين فيه ليس وحده الجيد، ولكنه الابرز.

 ليس مستغرباً ان نعثر في لائحة الممثلين المغردين خارج سرب الفيلم مساحة كبرى لممثلين خاضوا تجارب سينمائية من النوع الاول، أي مع مخرجين متميزين.

 هؤلاء اعتادوا العمل على الشخصية بأسلوب مختلف هو بالطبع نابع من داخلهم ولكن تجاربهم مع مخرجين متفوقين غذته.

من الصعب أن نشاهد اداء غير جدير بالاهتمام لممثلين من مقام آل باتشينو أو جاك نيكلسون أو ميريل ستريب أو روبرت دي نيرو وحتى إن كانوا في أفلام عادية.

لأولئك وغيرهم بالطبع بصمة خاصة ستظهر دائماً ولكنها أحياناً تكون من عالم الفيلم وحيناً من خارج هذا العالم.


الساعات


ليس من المستغرب ان يبدو الامر صعباً إذا أخذنا سينما هوليوود الحالية مثالاً.

حيث ليس سهلاً أن نرسم حدوداً فاصلة بين أنواع الاداءات للممثلين. السبب ببساطة هو ان غالبية الافلام المعاصرة تقوم على ميزان دقيق وتقدم كل شيء بحساب.


انه قانون السوق الذي يرمي إلى مخاطبة العدد الاكبر من الجمهور، فيوازن بين الامور كافة: الجرعة العاطفية، الكوميديا، الاداء... كل شيء بمعدل وسطي ليعجب الكل. فماذا لو تفوق ممثل في شكل لافت ومن ثم تبين انه لا يروق لعدد من الجمهور؟ عندها سيخسر العمل هذا الجمهور.


لذلك تبدو موازنة العناصر هي الحل: عمل عام من عناصر هجينة يتوجه إلى جمهور عام بدون ملامح. إنه الوصف الذي ينطبق على غالبية الانتاج الهوليوودي اليوم مع وجود استثناءات بالطبع بعضها هو الدافع إلى هذه القراءة.

وبقليل من التفكير، يمكن القول ان فيلم الساعات لستيفن دالدري كان واحداً من أبرز الاستثناءات.


وهو فوق ذلك يقوم على ثلاث شخصيات نسائية تشكل محوره، مع احتفاظ ممثليه الآخرين (إد هاريس، جون سي رايلي) بخصوصية أيضاً في الاداء. إذاً، هو فيلم الشخصية بامتياز.

 نرى العالم من خلالها وكذلك الأحداث. نيكول كيدمان حازت على الاوسكار عن دورها في تجسيد الكاتبة فيرجينيا وولف. إلى جانبها، قامت جوليان مور بدور زوجة في نيويورك الخمسينات، وميريل ستريب بدور محررة في لوس انجليس القرن الحادي والعشرين.

ثمة تفاصيل خاصة تتعلق بأداء كيدمان نظراً إلى أنها تلعب شخصية واقعية من أسلوب المشي إلى الكلام إلى الكتابة إلى الابتسام.


غير أن الفيلم بخروجه عن السيرة الكاملة للكاتبة منح الممثلة فرصة جيدة لاكتساء الملامح العامة ومن ثم استنباط التفاصيل. حتى كيدمان التي برزت في الاعوام الاخيرة قيل أنها تغيرت جذرياً بعد تجربتها السينمائية مع الراحل ستانلي كيوبريك في فيلم eyes wide shut والاشارة هنا مزدوجة، تشير إلى تعاونها مع مخرج مختلف، كما تلمح إلى موضوع التخيلات الجنسية والمصارحة بين الزوج والزوجة، وهو موضوع حساس يُعتَقَد أنه كان من أسباب انفصال الزوجين.


في مطلق الاحوال كان أداء كيدمان في "الساعات" مميزاً، يقوم على التفاصيل الصغرى التي باجتماعها تؤدي إلى نتيجة جيّدة.

 لم تكن ستريب أقل براعة وهي التي لعبت شخصية تتأرجح بين الواقع والخيال، تملك ملامحها الخاصة ولكنها أيضاً مستوحاة من شخصية السيدة دالواي في رواية وولف.

 في شكل عام، يمكن اعتبار أداء الممثلات في الفيلم معتمداً على التفاصيل، لا سيما وانهن يتقاسمن الشاشة بحيث لا تملك اي منهن مساحة فيلم كامل لتكشف عن الشخصية التي تجسدها.


الشخصية المركزية


فيلم آخر محوره الشخصية ولكن هذه المرة هي شخصية واحدة مركزية، تساعدها أخرى في أدوار أقل مساحة وأهمية. سلمى حايك في دور الرسامة المكسيكية فريدا كالو، رُشحت أيضاً لجائزة أوسكار، كما الفيلم. لكن أداء حايك يتأرجح  بين البراعة والعادية والتكلف.

هي أيضاً تجسد شخصية واقعية ككيدمان، مع اختلاف جوهري هو أن "فريدا" يروي سيرة الرسامة من مولدها وحتى مماتها. ذلك يبدو اصعب في نواحٍ عدة إذ يتطلب دقة تاريخية كما يتطلب أن تُحدد اختيارات صانع الفيلم.


ولا تمر الاخيرة من دون تأثيرات جانبية. ففي فيلم يتناول شخصية حقيقية، غالباً ما تكون النتيجة تجاهلاً من حولها من الذين يوازونها أهمية بسبب ضيق الوقت والمساحة.

 بهذا المعنى، لا يقدم الفيلم هذه الشخصيات إلا من حيث ما لديها لتقوله عن الشخصية الرئيسية. على هذا النحو يمر الروسي تروتسكي على الشاشة ليتبين من إعجابه بفريدا تميز الاخيرة الذي جذب كاتباً ومفكراً بهذا المقام.

ومن جهة ثانية، لا بد من الاشارة إلى ان الافلام التي تتناول شخصيات واقعية تقع في خانتين: الاولى تطرق شخصيات ذات حضور قوي في الذاكرة كالسياسيين مثلاً والثانية تتحدث عن شخصيات من ميادين لا تشكل اهتماماً للجميع، كالفن مثلاً.

تنتمي فريدا إلى المجموعة الثانية في الغالب. على الاقل وقد تكون غير ذلك في مسقط رأسها المكسيك.

 أفادت الشخصية من كون حايك مكسيكية الأصل، ولكن العنصر الهام الذي لا يمكن تجاهله عند مشاهدة الفيلم هو ذلك الشبه القريب بين الممثلة والرسامة.

 سواء أكان ذلك تطلب جهداً كبيراً أو أنه كان شبهاً طبيعياً، فإنه لعب دوراً إيجابياً. ولعله أيضا شجع المخرجة جولي تايمور على تكريس أسلوبها في الانتقال من الواقع إلى الخيال، أو من فريدا الأصل إلى فريدا الصورة.

بالعودة إلى أداء حايك، من الجائز القول أنها التقطت مزاج الشخصية العام، وهو ما لا يُعبر عنه بالكلام وإنما بالحركة والنظرة. ونستطيع ان نلمس من أداء حايك ان فريدا كانت حيوية ومشاكسة وقاسية وحاسمة ومجنونة ومتطرفة في مشاعرها.

 إنه أداء يعكس أيضا التناقضات في شخصية فريدا. يمكن القول ان أداء حايك انقذ الفيلم في شكل ما من حواراته السطحية التي لم تخبر الكثير عن الشخصية. احياناً بدا اداء الممثلة متناقضاً ولكنه في ذلك إنما يشبه الفيلم.

 فقد تأرجح الأخير بين محاولة تشكيل صورة غير عادية لرسامة غير عادية، وبين التزامه بتفاصيل واقعية. أبرز ما في الفيلم هي المقاطع التي تتحول فيها لوحات فريدا ثلاثية الأبعاد.


إن قارنّا بين "الساعات" و"فريدا" يمكننا العثور على شيء مشترك وان ليس اكتشافاً؛ برغم ما قدمته سلمى حايك على الشاشة، فإن المؤشر الأصدق إلى شخصية فريدا هي لوحاتها التي تقول الكثير عنها.

 بالمعنى نفسه، يمكن أن نفهم وولف بعمق من خلال المقاطع المكتوبة القليلة التي يستعين بها الفيلم. كلا الفيلمين، أدرك ذلك فزاوج بين عرض الشخصية وعرض أعمالها كتعبير حقيقي عنها.


خيط الشخصيات


ينتمي آل باتشينو إلى فريق الممثلين ذوي البصمة الخاصة. ثمة خيط يربط الشخصيات كافة التي يلعبها على الشاشة، هو احساس آل باتشينو إذا جاز التعبير. أو هو ما يصنع آل باتشينو ويميزه.

الاحساس هو الذي يقوده في أدواره أكثر من العقل. ربما لهذا يأخذ عليه كثيرون التشابه بين شخصياته أو بروز ملامح من شخصية معينة في أدواره اللاحقة، كما حُكي عن شخصيته في "عطر إمرأة" أو في الجزء الثالث من "العراب".


ينتمي باتشينو أيضاً إلى نوع من الممثلين تبدو حياتهم وعملهم متداخلين، بحيث انه يجلب تجربته في الاولى إلى الثاني. منذ زمن طويل لم يُرشح باتشينو لجوائز عن ادواره. المرة الاخيرة كانت في العام 1992 عن "عطر إمرأة" حين فاز بالاوسكار. ولكن متعة مشاهدته على الشاشة لم تتغير حتى في افلام عادية.

 لم نشاهده كثيراً في السنوات الاخيرة؛ ثلاثة أو أربعة أدوار في any given sunday، insomnia، the recruit وحالياً simone.


لعل آخر الادوار المميزة التي لعبها آل باتشينو كان في العام 1997 "دوني براسكو" في فيلمه simone. وفيه يلعب دور مخرج سينمائي غير تجاري، يلجأ في لحظة يأس إلى اختراع ممثلة بواسطة الكومبيوتر ليتمكن من انهاء فيلمه.

ولكن النتيجة النهائية مناقضة لرسالة الفيلم. فكما أن الممثلة الوهمية "سيمون" طغت على المخرج، فإنها في معنى ما طغت ايضاً على أداء باتشينو في الفيلم.


لا يظهر آل باتشينو بكامل "اسلحته" هنا، فهو في شكل ما يختبر الخطر الذي يتحدث الفيلم عنه، خطر أن تتحوّل السينما آلة.

 آل باتشينو في مواجهة سيمون التي هي في الواقع ممثلة جديدة، مواجهة حقيقية بين جيلين وتنقيتين مختلفتين، تبقى في الخلفية لان الفيلم يتعاطى مع سيمون كحقيقة وهمية.

يعكس الفيلم بعضاً من جوانب حياة آل باتشينو ربما من دون ان يقصد ذلك. انها حياة الفنان القلقة غير المجزية التي تتناقض فيها مبادئه مع متطلبات السوق. وهو يجسد بشخصيته في الفيلم ببراعة السقوط التدريجي لما يمثله الفنان وانضمامه في نهاية المطاف إلى الخط السائد.

ويمثل ايضاً التناقض بين ما يحياه وما يحلم بتحقيقه من مجد وشهرة وجماهيرية، نافياً بذلك المزاعم التي تقول إن الفنان، مهما بلغ تفرده، لا يهتم برأي الجمهور.


 يحمل الفيلم مخاوف حقيقية من مستقبل السينما، بل إنه يقدم نظرة سوداوية لأن الشخصية الوحيدة فيه التي لا تمثل السوق ولا تهتم بالاستهلاك، أي شخصية آل باتشينو، تنقلب في النهاية لتصبح من جماعة الربح السريع. في الفيلم أيضاً تعليق على الممثل من خلال الشخصية التي توديها وينونا رايدر كنجمة متعالية متحكمة.

لا يخلو الفيلم من جانب انتقامي، كأنه يحقق حلم المخرج أندرو نيكول، فهو يلقن درساً للممثلين النجوم ويهددهم بأن استبدالهم اقل من سهل.

 بل ان الفيلم يذهب أبعد عندما يجعل النجمة تتراجع عن موقفها وتتواضع امام المخرج.

 إذا كان باتشينو هو العنصر الاقوى في الفيلم، فإن الاستنتاج النهائي من الفيلم إذا أردنا تبسيطه هو أن السلطة الحقيقية في السينما هي للمخرج قبل أن يرضى بالتنازلات لمصلحة السوق.