مهنة ظالمة!

أعمل في الإعلام منذ ربع قرن. وأكتب المقال بشكل مستمر منذ بداياتي تقريبا. لذلك استطعت مراكمة كثير من الخبرات، والأهم أنني تعلمت كثيرا من الألاعيب التي يمكن لي أن أمارسها خلاله. والأهم أكثر أنني تعلمت كيف يمكن لي أن أهرب من القول أو التأشير الصريح على الأمور، باتجاه تسجيل المواقف القصووية في كثير من القضايا والأحداث.اضافة اعلان
أنا أتكلم بشفافية ووضوح. وأحاكم نفسي وآخرين كيف أننا لا نجرؤ على التورط بالشفافية والمكاشفة من خلال الكتابة.
أسوأ ما يمكن تسجيله على الإعلام في العالم الثالث، ليس أنه ليس حرا، بل أنه لا يمكن أن يكون حرا. ينبغي له دائما أن يكون متحيزا. ولكن لمن يكون التحيز؟!
يقول مثل شعبي "من يدفع للزمار، لا بد أن يحدد النغم". هو مثل يستجلي الخبرة الإنسانية في القوة والضعف، فيكشف بلا مواربة آليات توظيف النقيضين؛ القوة أو الضعف، والاستثمار فيهما لمصلحة المغريات التي كانت قادرة على الدوام أن تحرف بوصلة الأشياء عن جوهرها.
نعم، هناك من استفادوا بشكل واسع من كتاباتهم، وتبنوا أفكارا لم يقتنعوا بها أبدا، فأثمر مسلكهم مكاسب عديدة، وهناك من تدثروا بالخوف. وفكروا في موازنة الأمور واستشراف الواقع بين ما هم عليه وبين ما يمكن أن يكونوا عليه إن هم خرجوا عن السطر المكتوب لهم. تلك قضية شائكة أن يوازن الصحفي أو الإعلامي بين وظيفته وواجبه، وبين لقمة عيشه التي قد يتعرض إلى خسارتها إن مارس قناعاته بالفعل.
الإعلام الذي يبدو جليا تحيزه في عالمنا اليوم، تسيطر عليه شبكة واسعة من المؤثرين واللاعبين الأساسيين في توجهاته وسقفه. ربما تكون السلطة أوضح اللاعبين، ولكنها ليست الوحيدة بالتأكيد، فهناك الشركات الكبيرة التي دخلت على الخط من خلال تأثيراتها الهائلة في استمرارية تمويلها لحملات إعلانية تسهم في تأمين الكلف التشغيلية للمؤسسات الإعلامية.
وهناك المجتمع، أيضا، والذي غالبا ما يرفض التسامح مع الاصطدام بوجدانه و"ثوابته"، حتى لو كانت بالية وعفا عليها الزمن، أو مفاهيم رجعية لا وظيفة لها سوى تأخير تقدم المجتمعات، وتجذير تخلفها وتبعيتها وعماها.
في العالم الثالث، تمتد القائمة إلى ما لا تستطيع إحصاءه من "التابوهات"، فتدخل فيها الشركات والمؤسسات والعائلات المؤثرة، والعشائر، والدكاكين، وصولا إلى البقالات الصغيرة، والإشارات الضوئية، وبالتأكيد قطاعات الأشغال والمقاولات والتعدين، والنووي، والبترول والتعليم.. إلى آخر القائمة.
أنا وجيلي اختبرنا كل هذا الخراب، وفي مفاصل مهمة من تاريخنا المهني أحنينا جبهاتنا لكي تمر العواصف، وبقينا نردد بلا رغبة منا مقولة أحد الرفاق عن أستاذه الذي اختبر التهميش والإقصاء: "الريح تجرح خد السوسنة".
ولكن، ترى ماذا كنا نريد خلال عقود ثلاثة أمضيناها كمن يحارب طواحين الهواء بحثا عن شبه انتصار، ولو كان وهميا؟
هل كنا نريد بيوتا ممولة من غير أموالنا التي كسبناها بعرقنا، أو مركبات فاخرة نستهلك بها شوارع العاصمة، أو بعثات كثيرة تنفتح أمام أبنائنا لكي يدرسوا في أفضل جامعات العالم فلا ينهكوا ميزانياتنا بشيء.. أم أننا آمنا بصدق أن ثمة رسالة نحملها كإعلاميين، وينبغي أن ندفع ضريبتها إن واجهنا مفترق الطرق الذي يطلب منا تحديد المسار واتخاذ قرار. وقتها لا بد من ثمن؛ إما مزايا إضافية، أو تفريط بالمكتسبات إن نحن اخترنا التشبث بالدفاع عن الخير والجمال.
وللحقيقة، فالخير والجمال مجرد مصطلحين فلسفيين لم يعد لهما وجود فعلي اليوم. أصبحا زائلين في عرف التشابك الكبير للمصالح وتداخلها بصورة يصعب فصلها أحيانا.
في نهاية المطاف، العمل في الإعلام بأي من دول العالم الثالث، يشبه إلى حد كبير مهمة "غربلة الماء"، فأنت تدرك بيقين أنه ما من جدوى حقيقية لعملك، فالماء سينساب من حلقات الغربال ويذهب في مجراه مرة أخرى، بينما أنت لا ينالك سوى التعب والوهن والقنوط.
الإعلام العربي اليوم، يمتهن غربلة الماء وحراثة البحر، فالسقف منخفض لدرجة تكسر الأعناق، والمغريات كثيرة لمن يطمح بالطرق غير المستقيمة، بينما العواقب كبيرة لمن سيفكر بالمشاكسة. ومع ذلك ما يزال كثيرون يحلمون بالمستحيل، وبالقدرة على كتابة عهد أكثر حداثة، وبمواجهة كل الفساد، واختراع قيم أكثر قداسة.
تلك قناعات لا يصنعها إلا الأمل، العدو الأول للواقع، والقادر على أن يغشي الأبصار والقلوب، ويحملنا على تصديق الأوهام.