موازنة 2017 والاهتمام العميق بالعالم

قدمت التفاعلات المصاحبة لموازنة 2017 دروسا ومؤشرات مهمة، قد تكون في عمقها حدثا مؤسسا لمرحلة جديدة ومختلفة في إدارة الموارد والإنفاق العام، بما هما جوهر الحكم والسياسة. لم تعد مسألة جمع الضرائب والموارد العامة وإنفاقها عمليات معزولة تديرها الحكومة في حين ينشغل النواب والرأي العام بالجدل حول محمد مرسي وغامبيا ومسائل وقضايا لا تقدم ولا تؤخر! ولم تعد المساجد والاتجاهات الدينية مسرحا للتوظيف السياسي، سواء من قبل الحكومة أو الجماعات والأحزاب. ولم يعد الإعلام والتأثير في الرأي العام عملية يمكن احتكارها أو الاستمرار في تنظيمها بالأدوات والأفكار السابقة.اضافة اعلان
مؤكد أن علماء الدين شخصيات اجتماعية جديرة بالتقدير والاحترام لذاتهم ولمواقعهم التي تُسند إليهم، برغم الجدل والاختلاف حول مدى انسجام هذا الدور الرسمي مع الدستور وأهداف الدولة والمجتمع؛ إذ إنها تظل مواقع ذات أهمية اجتماعية، وتؤدي دورا روحيا. وما حدث من جدل إعلامي وشعبي حول التوظيف السياسي للعبادات والمؤسسات الدينية؛ مهما كانت أهداف هذا التوظيف، وأيا كانت الجهة التي تقوم بذلك، يؤكد على ضرورة حماية الدين وعلماء الدين من السياسة، ليظل للدين وعلمائه رسالة روحية واجتماعية موثوقة ونقية.
ثمة أولوية قصوى لمراجعة الدور الديني للدولة وعدم التوظيف السياسي للدين. وهذا ينطبق على الحكومة والجماعات والأحزاب. فالعبادات الدينية مسألة لا مجال للتدخل البشري فيها. وهذا التدخل إن كان صحيحا يعني أن خطبة الجمعة مسألة بشرية وليست تعبدية وبالتالي يمكن الاستغناء عنها، وإن لم يكن صحيحا فلا بد أنه سلوك يلحق ضررا كبيرا برسالة الدين وعلاقة الناس بالخالق، والمفترض ألّا سلطة لأحد من البشر عليها.
انتقاد تسييس خطبة الجمعة هو انتقاد للسياسة الحكومية، وليس متصلا بالاحترام والثقة لشخص ومكانة عالم جليل وموقعه الرسمي الشعبي الذي يستحق بذاته ولذاته أيضا الاحترام والثقة. توظيف الدين سياسيا حتى لأهداف إصلاحية، يضر بالدين والسياسة، ويسيء إلى هيبة المنصب الديني الذي يستمد حضوره أولا من ثقة الناس واحترامهم.
وفي المعالجة الإعلامية للقضايا والأحداث، بدت حقائق أساسية. فالإعلام يغير في سلوك وشخصيات من يتعرضون له؛ سواء المشتغلون به أو المتأثرون من الشخصيات العامة والمشاهير. وربما يكون أكبر ضرر يمكن أن يلحق بشخص هو أن يكون تحت الأضواء؛ إذ يؤثر ذلك على السلام الداخلي للإنسان، ويحتاج إلى طاقة عظيمة ليتجنب ما قد تلحقه الأضواء بنفسه أو شخصه، أو ما تعرّضه للسخرية والإساءة. قد يكون قدر السياسي أن يتعرض للإعلام بوهجه واحتراقه وإغوائه. لكن من الخير دائما للشخصيات العامة التي لا تتعامل مع القضايا اليومية والرأي العام أن تتجنب الإعلام بخيره وشره. ومن الضروري جدا للإعلاميين والمدونين أن يعالجوا أنفسهم على نحو متواصل من التأثير الكبير والخفي للإعلام، والذي قد يفقدهم التوازن والسلام. وكما يقول ميلان كونديرا، إن الشخص الذي يتعرض للأضواء يتورم حتى ينتفخ ويطير في السماء مثل منطاد بديع!
المشكلة الأخرى هي أن الإعلام اتجه على نحو خارج عن السيطرة، ولم يعد مؤسسات منضبطة محددة. وفي ذلك يصعب بناء سياسات ملائمة لما يقال وما لا يقال، سواء بالنسبة للشخصيات أو لوسائل الإعلام. ولم تعد أدوات العلاقة والضبط المتبعة على مدى العقود الماضية تصلح لتنظيم العلاقة بين المجتمع والسلطة السياسية وبين المجتمع والإعلام وبين السلطة والإعلام، ولم نعد نعرف بوضوح الصواب والخطأ في ذلك.