موت الخلق العام

موت الخُلق العام يعني موت الحق العام وموت الواجب العام، والحق العام هو الملك العام أو المشترك بين جميع أبناء الوطن، ويتمثل بالدولة وكل ما هو عام أو مشترك، أو اختصاراً بالدولة وبخاصة الحكومة والبلديات وكل ما بحكمها. إنهما ملك للأحياء وللأجيال القادمة. ومن هنا نشأت فكرة التنمية المستدامة التي يعبر عنها قول الميش أفضل تعبير: «إننا لا نرث الأرض عن آبائنا وأجدادنا وإنما نستقرضها من أبنائنا وأحفادنا». ولكن الحق العام لا يتجزأ ولا يوزع، وإلا كان ذلك علامة على انهيار الدولة. إن كل واحد/ة شريك فيه ويستفيد منه بحكم هذا الحق، ويتجلى بتقديم الدولة خدماتها له كما في التعليم والصحة والأمن والعدالة، ويقابله واجب على كل واحد/ة بالمحافظة على دوام هذا الحق ليبقى ويدوم. ومن هنا ينشأ الواجب العام، فبدون هذا الواجب يفقدونه، ويعيشون كأنهم في غابة حيث يأكل القوي الضعيف أو في محيط حيث يبتلع الكبير الصغير. مناسبة هذا «الكلام» موت الإحساس بالخلق العام عند معظم الناس، أي موت الإحساس بقدسية الحق العام، وبأولوية الواجب العام على الحق. إنهم لا يدافعون عنهما، كما تمثله الدولة، بل يعتدون عليهما من خلالها ويحاول كل واحد/ة الفوز بأكبر حصة منها ولو بالسطو عليها وحتى نهبها. ولما كانوا لا يقومون بالواجب الذي يحمي هذا الحق ويعززه فإن إنتاجهم وإنتاجيتهم تضمحلان، وقد تصبحان صفراً، ويدب الخراب في الدولة. وأسطع مثال عليه الاعتداء على خطوط المياه والكهرباء. ولولا خوفي من استنفار العاملين في الدولة لذكرت أمثلة حية في كل وزارة ودائرة وبلدة على هذا الخراب المتمثل في الإهمال في الواجب والتهرب من القيام به على سهولته وانخفاض كلفته الجسمية والعقلية، لكن سمعة العاملين هؤلاء معروفة عند المنظمات الدولية التي تقدم المساعدات للدولة في المجالات المختلفة في الحضيض. إنها تشكو من الإهمال وتضييع الوقت وعدم القيام بالواجب حتى في أصغر الأمور مثل إرشاد جهة أوروبية تساعد في أحد المجالات، وكذلك وجود مقرات لا تحصى لكثير من المؤسسات فارغة أو لا يوجد فيها سوى بضعة موظفين. ففي كل مرة يُطالب العاملون في وزارة أو دائرة أو بلدية بإنجاز عمل ما مهما كان صغيراً يخترعون ألف حجة كي لا يقوموا به. المهمة المسيطرة عند مجمل العاملين فيها هو الأخذ دون العطاء والدوام دون العمل، وإن كان ذلك لا يجعلهم يستحقون أي زيادة في الراتب أو في علاوة المعيشة. والدليل عليه أنه لو لجأت الدولة إلى الطلب من كل منهم أن يؤدي القسم فيما إذا كان يستحق الزيادة أو العلاوة لما جرؤ إلا قلة منهم على أدائه. إن العمل في الدولة عندهم بمثابة قضاء العطلة في «ربوعها». ومع هذا نجد كثيراً منهم يتفاخرون ويشخرون ويرفعون أصواتهم مطالبين بالمزيد، محتجين بما يسرقه الفساد والفاسدون منها وطبطبتها عليهم. وكأن هذه المنافخة أو الشخير أو رفع الصوت تعفيهم من القيام بواجباتهم كاملة، أو تبرر لهم مزيدا من الزيادات والعلاوات، أو حتى السرقة أو النهب عندما تلوح الفرصة ويغيب الرقيب. نقول لكل من هؤلاء يا أخي / يا أختي: لو كنت مصاباً بالسرطان هل تقعد منتظراً الموت أم تكافح ضده حتى آخر لحظة لتشفى، فاعتبر الفساد والفاسدين مثل السرطان فقم بواجبك وكافحه، واعلم أن القيام بالواجب هو أفضل الكفاح ضده فالقيام بالواجب في نهاية التحليل بمثابة إنتاج، والحق في نهاية التحليل بمثابة استهلاك، والاستهلاك غير ممكن أو مستمر بدون إنتاج يسبقه. يجب أن لا ينعكس الفساد سلباً على الواجب ولا يجوز التراخي فيه بحجة الفساد، وإلا فإنه دليل على حسدك للفاسدين أو على الغيرة منهم. للأسف لا يقوم التعليم ولا يقوم الحراك ولا يقوم الإعلام كل بدوره في توعية الناس في هذا الأمر. ترى هل أصبحت الأخلاق موضة قديمة؟ يقول جورج برنارشو: «يجب أن نجعل العالم أولا نزيهاً أميناً، قبل ان نتحدث بأمانة عن الأمانة لأطفالنا. إن الأمانة هي أفضل السياسة أو الأخلاق على الإطلاق». لا أقول لك ذلك كواعظ فقد قدمت الواجب على الحق في جميع أعمالي، بعدما ملكتني فلسفة الواجب عند كانط الذي يقول: «شيئان يملآن عقلي بدهشة جديدة ومتزايدة وروعة أو خشية في كل مرة، وهما السماء المرصعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي».اضافة اعلان