موت رجل فضولي

سأموتُ في الخمسين، مثل الرجال الفضوليين الذين يذهبون مبكراً لتجربة الغيب. لستُ عرّافاً يا زوجتي، لكنّي أعرفُ ما لا أريدُ أنْ تعرفيه. لكِ أن تحزني، وربّما تتجاوزين أصولك المدينيّة وتنوحين مثل الأرامل الريفيات، وبعد عامين ستلومينني على الرحيل الخاطف، وتقولين إنه كان لا بدّ أنْ أعطيكِ إشارات واضحة، فأتلوّى أمامكِ، وأئنُّ، وأخدش ساعدكِ، حتى أزفر ولا أشهق، لكنك قد تغفرين لي إنْ أخبرتكِ بما سأسميه منذ الآن: محاسن الموت في الخمسين.اضافة اعلان
ستبقى صورتي في الإطار الفضي المتوسط على الكوميدينو الذي بجانبك، لائقة بأن تكون الأخيرة، فمع سنين الترمُّل الطويلة لن تتذكري سوى ملامحي في هذه الصورة. التقطتُها قبل شهرين من إصابتي الخبيثة. سألني المصوّر إنْ كنتُ أريد صورة لجواز سفر أو ..
قاطعته: اعتنِ بها كأنّها الأخيرة.
دعا لي بابتعاد الشرّ، لكنه كان يقترب!
كنتُ في الصورة رجلاً يبدو في منتصف الأربعين، صافي الوجه، حليق الذقن والشاربين، فلا تجاعيد إن أغمضت نصف إغماضة بعد مذاق لاذع، ولا أخاديد حول الفم رغم أنّ ابتسامتي تقترب من مستوى الضحك. أسناني كاملة، شفتاي مستديرتان، جبهتي مشدودة، والشعر أسود والأبيض قليل، كما ترغبين، وكما تشتهي النساء.
لن أرى، حين أموت في الخمسين، علامات القرف على وجهك، وأنا عجوز عليل في الخامسة والسبعين، لما أكون مستلقياً على السرير، وأنتِ تزيلين آثار جلوسي الطويل عن الأريكة الخضراء. تمسحين عن كفك لزوجة صفراء، حين تحملين مناديل ورقية فيها بلغمي وإفرازات أخرى لانفلونزا الربيع، وتلومينني كأنّي حفيدكِ اللطيم، لأنّي امتنعتُ بشبه البكاء عن التطعيم الموسمي، لخوفي من ألم غير مُجَرّب.
سأتركُ لكِ بيتاً في الطابق الثالث، وراتباً جارياً حتى نلتقي في ظلِّ الله، وسيارة في أول العمر، وابنتين وزوجين وأحفاداً. أنتِ الآن في الخامسة والأربعين، وبعد صعودي، ربّما تكون لكِ بعد سنتين من الحداد الصادق رغبة بطيش سريع، فقد يغويك شاب رياضيّ عبر الإنترنت، وتسافرين للقائه قرب البحر وتحت الشمس، وقد تتزوّجين رجلاً هرماً حين تحتاجين إلى شريك في صباحات الشرفة، لكنّ كلّ الاحتمالات الأخرى لن تلغي إمكانية أن تخلصي لذكراي، وتمنعي عنكِ الحبّ وتطردي الزواج، وستلاحظين عندها ابتسامتي، أنا الذي متُّ في الخمسين، في سنّ الزواج الثاني.
لم أمت بعد، هناك وقت أريده قصيراً، لأعدِّد محاسن أخرى للموت في الخمسين. فلن أصل إلى الستين، حيث سنّ الإنكار، والبطالة، ورمي النرد في المقهى الشعبي، والثرثرة عن أمجاد ذكورية لا يمكن التثبت من صحتها. المؤسف حقاً أن أبلغ الخامسة والستين، وأرى رفاق المقهى يتناقصون حول الطاولة، وأمتنع عن القيلولة الملكيّة في الظهيرة التي تبتلع الرجال. لن أصل أيضاً إلى السبعين، لا شيء يثير قلقي من هذه السن، سوى حوار سينمائي وقح، قالت فيه الممثلة الصعيدية، إنّ الرجال الذين في السبعين، حين يخلعون ملابسهم، يثيرون شفقة الكافر.