موت مجاني للفقراء

استيقظَ مبكرا، ككل يوم. لم يقرأ الصحف، لم يتطيب بالعطر، لم يحلق ذقنه. شرب كأس شاي سريعا، ودع أمه، ثم انطلق مسرعا ليلحق بعمله. مارس هوايته المتبقية له وهو في الباص، في الطريق إلى عمله.. التمعن في وجوه الناس وهم يسابقون الوقت للحاق بأعمالهم، وفي البال رزمة أحلام مؤجلة، لشاب في مقتبل العمر، يمني النفس بأنها ستأتي ولو بعد حين.اضافة اعلان
لم تمض ساعتان على انخراطه بالعمل، وتعلقه بحبل غليظ تدلى به من فوق عمارة قيد الإنشاء لـ"تكحيل حجرها"، حتى باغته الموت، فهوى به إلى الأرض، محطما عظامه وأحلامه.. وأوهامه بالغد الافضل الذي لم يأت!
ما الذي دار بباله في تلك الثواني المعدودات، وهو يهوي بتسارع ورعب نحو حتفه؟ هل تساءل في الوقت الضائع بين الحياة والموت، عن سبب عدم احتياطه في عمله الشاق والخطر، لاحتمال السقوط والإصابة والوفاة؟! ما الذي دار في دماغه النازف، وهو في الطريق إلى المستشفى، قبل أن يصله متوفى؟ هل جاءه طيف أمه في تلك اللحظات القاسية، يبكي حاله ومأساته؟ هل استعادت مخيلته، وهي تقف على تخوم الفناء، شريط حياته، بفقرها وبؤسها وشقائها، لتنتهي به متدليا من عل بحبل غليظ، ثبت أنه أمام الموت الفاجع أوهن من بيت العنكبوت؟!
يا لموت الفقراء والكادحين! يا لموت العمال في بلادنا! فاجع وصادم وقاس كما هي حياتهم، وكما هو بؤسهم.
حتى العشرون دينارا، أجرة عمله في يوم موته، قد تذهب أدراج الرياح، ناهيك عن تأمين أو ضمان أو تعويض وفاة عمل، لن تتوفر لأمه التي تنتظر عودته مساء للمنزل، مغبرا متعبا جائعا، بعد يوم عمل شاق وطويل، لم يكن يتصور أو تتصور أنه سينتهي بهذه القساوة؛ سقوطا مروعا وداميا من حبله الغليظ.
هي قصة عامل في بلادي، مات أمس، وهو يسعى في مناكبها بحثا، كما غيره من مئات آلاف الفقراء، عن لقمة عيش ملطخة بالشقاء والمعاناة والإهمال! قصة تحاكي قصة ذلك الشاب الدي توفي سقوطا من أعلى بناء قيد الإنشاء أيضا في أبو نصير، وقصة شاب آخر توفي بفاجعة شبيهة سقوطا من الطابق الخامس أثناء تركيبه مصعدا بعمارة قيد الإنشاء في جرش.
هي مآس نقرأ عنها يوميا في الصحف والمواقع الإلكترونية، ونحن نحتسي القهوة، ونتسلى بأخبار الجرائم وتراجيديا الموت، فيما الفقراء والعمال يموتون مجانا يوميا في شوارعنا ومشاريعنا، يتدلون من أعلى المباني، لطراشة أو قصارة أو سمكرة أو تركيب شبابيك، من دون احتياطات أو شروط سلامة، فيما نتذرع جميعا بالقدرية، لتقبل موت مجاني لعمال فقراء، سحقهم الفقر والجهل تحت أقدامهما.
هي قصة موت معلن ومفضوح على أسطح بناياتنا ومشاريعنا يوميا.. موت مجاني لآباء وأبناء وأزواج، خرجوا للعمل والرزق في مكان قريب، لكنهم لم يعودوا.. بلعهم الموت بعد أن بلعهم الفقر والجهل وقلة الحيلة.
هو عدّاد مفتوح للموت المجاني لعمال بلادي؛ ويبدو أن حملات التوعية والإرشاد التي تملأ الإعلام، لن تشفع بوقفه أو تراجعه، فالفقراء ما تزال تستهويهم -كما يبدو- النهايات الفاجعة والمجانية!