ميداليات عربية..!

لطالما كان النجاح والانتصار يجمعان الناس، والفشل والهزيمة يفرقانهم. وفي حالة الأمة العربية، أشاعت الروح الانتصارية التي أعقبت التحرر من الاستعمارات المباشرة روحاً آملة وبوادر نهضة. وفي ذلك الحين، ظهرت دعوات إلى توحيد العرب ومحاولة التغلب على التقسيمات القطرية التي صنعها الاستعمار. لكن الهزائم المتعاقبة بعد ذلك لم تُقتصر على إفشال مشاريع الوحدة بين الأقطار والتنافس الذي وصل بينها حد العداء أحياناً، وإنما طالت الناس في داخل الأقطار نفسها، حيث يقسم الإحباط الناس إلى فئات ينتمون إليها طلباً لدفء المجموع الصغير وحمايته في غياب مشروعات وطنية ناجحة ومنتصرة.اضافة اعلان
هكذا أصبحت الأقطار العربية طباقاً للقصة المعروفة عن الثيران الثلاثة الأشقاء الذين أُكِلوا يوم أُكل الأبيض. وهكذا تتفتت الأقطار التي لا تستطيع الصمود بإمكانياتها الخاصة وتتزايد الدول الفاشلة. وهكذا تأسست الاضطرابات والحروب الأهلية والطائفية والصراعات على أساس فروقات ينبغي أن تكون هامشية لو انخرط الجميع في مسيرة نحو هدف واعد. وهكذا نشأت المفارقة المتمثلة في تفكيك العروبة، هوية الأمة الجامعة والضامنة لمصالحها، في حين يصطنع الآخرون أمما وقوميات على أقل المشتركات من أجل المنافسة في العالم الصعب الذي لا يرحم الضعيف.
ولكن، برغم الأعلام المختلفة والحدود والجنسيات والتنافس بين الدول العربية، تظهر العاطفة الشعبية الأساسية الطبيعية في المناسبات التي يتنافس فيها عرب، أي عرب، مع أناس من الأمم الأخرى. وكما لاحظنا دائماً في المنافسات الرياضية، نرى مختلف وسائل الإعلام العربية في كل مكان تقريباً تناصر المنافس العربي. ويظهر ذلك مجدداً في أولمبياد طوكيو، حيث تُحسب نجاحات العرب في الرياضات المختلفة، وتحصى الميداليات الصينية، والأميركية، والبريطانية، والعربية.
لن تكون الميداليات التي يكسبها الرياضيون العرب منسوبين إلى أقطارهم مُرضية. وفي الحقيقة، قد تجمع دولة إسكندنافية صغيرة من الميداليات أكثر مما تجمع أكبر الدول العربية. لكنّ جمع الميداليات العربية قد يعوض شعور النقص وقلة الإنجاز أمام ما تكسبه الأمم الأخرى. وينسحب هذا على كل مجال تعمل فيه الدول العربية فُرادى أو مجتمعة، سواء من حيث التأثير السياسي، أو التجارة، أو النفوذ أو التنمية الاقتصادية والبشرية. سوف يكون المنجز الجماعي أكثر اكتمالاً وشمولاً، وأبهى وأعلى وادعى إلى التصالح مع الهوية الجامعة.
ما يُعبر عنه الإعلاميون الرياضيون العرب من مشاعر الفخر الصادق بمنجزات مواطنيهم من كل وطن العرب بشكل عفوي، وبما قد يتجاوز أي خلافات بين الدول التي يعملون فيها ودول الأشقاء الفائزين، هو العاطفة الطبيعية التي تُذكرنا بأن الانتماء الكبير ليس شيئاً يمكن أن يلغيه شيء. وإذا كان ثمة من يُناصر منافساً من أمة أخرى على مواطنه العربي، فمن إحباطٍ مرضيّ أو قلة وعي أو اختيار للتآمر على الذات.
لقد أثبت اختيار تأكيد الخلافات على حساب المشتركات دائماً أنه مقتل لصاحبه قبل غيره. وحيثما أثيرت صراعات على أساس الانتصار للفئة والعداء للآخر تداعت الأمم وفشلت، ونشبت الحروب الأهلية والعنف المجتمعي وخسر دعاة الاختلاف –بما في ذلك احتمال خسارة أراحهم ذاتها. وقد وقع العرب الذين دفعتهم الهزائم إلى تصغير انتماءاتهم في فخ دمر أوطانهم ولم يترك أحداً في منجى. ويعرف كل مواطن في الوطن العربي الكبير، إذا فكر في انسجام مع تاريخه وهويته وعاطفته، أن نجاة المجموع لن تتحقق بغير المجموع.
يمكن تصوُّر أشياء تبدو بعيدة، لكنها غير مستحيلة، مثل مشاركة الرياضيين العرب في الأولمبياد كوفد واحد، أو تكوين فريق كرة قدم عربي واحد، أو الذهاب إلى الأمم المتحدة في بعثة واحدة تعلن موقفاً واحداً. وينبغي أن يكون هذا التصور حاضراً ليس على أساس العاطفة وحدها، وإنما على أساس البراغماتية وخدمة الذات والمصالح الدنيوية.
العالم يتشكل حول القوميات. وعندما تفككت كيانات كبيرة، مثل يوغوسلافيا أو الاتحاد السوفياتي، فقد اختُزلت إلى القوميات التي كانت تشكلها. وليست هذه حالة العرب المنتمين إلى قومية واحدة تعبر عن نفسها شعبياً كلما تعرضت للاختبار.
في الحقيقة، بعُد تحقق التكامل وتجربة الوحدة كثيراً بينما يصارع العرب مع محاولة تجميع أقطارهم التي تعاني داخلياً. لكن ما يحدُث يقول في كل دقيقة ان تأكيد الهويات الصغيرة وصفة للضعف ووبال على الجميع، وأن مَن يقولون بها ينتحرون ويكونون حتماً بين الضحايا.