نبيل شعث ودُبلوماسية "القُبلة"

يربطك التجوّل في فيينا، بالمدينة عبر متاحفها ومقاهيها، كمتحف الموسيقي الشهير، موزارت (1756-1791)، وستفاجأ أن هذا العبقري كانت لديه مشكلات، من ضمنها القمار، وفي متحفه المُقام في بيته، نُسَخ مِما يسمى "رسائل التسوّل"، التي أرسلها لأصدقائه مُستجديا أموالاً. والبيت المتواضع للموسيقي شوبارت الذي مات عن 31 عاماً، (1797-1828)، تاركا إرثاً هائلاً؛ مُعتقدا أنّه خُلق ليكتب الموسيقى. ثم المتحف اليهودي؛ حيث عثرتُ على صورة مُحرّفة، كنت أبحث عنها؛ ففي الطابق الأرضي، كتاب عن هرتزل، الأب الفكري والروحي للصهيونية، مع صورته الحقيقية ينظر من شرفةٍ، إلى جسر ونهر، في أوروبا، وفي الطابق الثالث سجادة تحمل صورة "تعبيرية" لهرتزل ينظر من الشرفة إلى القدس. وفي فيينا تجد أيضا نُسَخاً من لوحة، غوستاف كليميت (Klimit) (1862-1918)، الشهيرة، القُبلة، The Kiss، تشتريها لوحةً، أو على كوب قهوة، وأنت تدخل مسارح الأوبرا، والمقاهي القديمة، مثل مقهى "قهوة المتحف"، أو مقهى (زوخر) صاحب وصفة كعكةٍ تاريخية، حصل بشأنها نزاعٌ قضائي، ومنتظرا 15 دقيقة ليصلك الدور لدخوله، ولكنها تستحق. اضافة اعلان
وُلد نبيل شعث، العام 1938، لأبٍ غزّي وأمٍّ لبنانية، وكان والده، مدير مدرسة في مدن فلسطينية، من الخليل حتى صفد، ثم مديرا للبنك العربي في الإسكندرية، يُعدّه ليكون قائداً في معركة التحرير، فأرسله لمدارس حكومية ليكون مع الجمهور والناس وليس مدارس خاصة، لكنه أرسله في العطلات إلى لندن لتعلم الإنجليزية.
نشط شعث في الولايات المتحدة، عندما ذهب للدراسة في جامعة بنسلفانيا، في "منظمة الطلبة العرب"، وانضم لحركة "فتح" على يد ابن عمته زهير العلمي، العام 1960، وأصبح أستاذاً شاباً في الجامعة، وكان دونالد ترامب تلميذاً في الجامعة حينها.
لاحقاً يتحول إلى مدير مركز التخطيط في منظمة التحرير الفلسطينية، بمهام خاصة، مثل ملف دخول الأمم المتحدة، ويعمل متطوعاً؛ فراتبه من التدريس بالجامعة الأميركية في بيروت يكفيه. ثم يؤسس أكبر شركات التدريب والاستشارات العربية (تيم)، ومؤسسة دار الفتى العربي.
طُلبَ في العام 1902، من غوستاف كليميت، رسم جدارية، لتكون ديكوراً مؤقتاً، لمعرض فيينا الرابع عشر، بعرضِ 34 مترا. وتُصوِّر رجالاً ونِساءً ينشدون السعادة، ينظرون لفارس يحمل سيفاً ليقاتل لأجل الضعفاء والمساكين، ولكن مع سيفه قصيدة معها موسيقى. ويرمز بهذا للسيمفونية التاسعة للموسيقي، بيتهوفن (1770-1827)، التي هي أول سيمفونية أوروبية لملحن كبير تجمع الغناء الكورالي (الجماعي) مع الموسيقى.
رغم أن الدكتور نبيل لم يخبرني عن سبب إعجابه بكليميت، يمكنني القول، إنّ هذا الفنان، يستخدم التكرار كثيراً للزخارف والألوان في لوحاته، تماما كالفن الإسلامي العربي، وبالتالي ربما في هذا حميمية بصرية جذبته، وللوحاته معانٍ عميقة. ولعل لوحة كليميت، شجرة الحياة، المليئة بزخرفات الشجر، كما الزخرفة الإسلامية، مثالٌ على ذلك، ويضاف إليها رسوم للإنسان وحياته، كما هو شائع في الفن الغربي. ولكن القصة المتوقع صدورها في الجزء الثاني من مذكرات، العضو السابق للجنة المركزية لحركة "فتح"، وزير الخارجية والتخطيط، سابقاً، أنّه زار فيينا، وبعد نقاش السياسة وفلسطين، مع وزير الخارجية، طلب منه "معروفاً" شخصياً، وهو رؤية جدارية كليميت عن بيتهوفين، فوجئ الوزير، ولم يكن يعرف بأمرها، واتضح أن اللوحة في قصر مغلق للترميم، ولكن الزيارة تمت.
كان مفترضاً إزالة جدارية كليميت بعد المعرض. وطبيعي أن تكون زيارة سياسي مثل شعث لسياسي آخر أمراً عابراً.
لم تُزَل اللوحة لأنّ زملاء كليميت رأوا فيها جمالا يجدر حفظه، وبقيت سنوات مكانها، حتى اشتراها ثري وجامع للفن، شريطة أن يصلحها كليميت إن فسد منها شيء أثناء النقل. ولم يَزُل أثر زيارة شعث للنمسا، فقد انتقلت العلاقة من السياسي إلى الشخصي.
في سيرة شعث، معالم مما أسماه "الدبلوماسية الحميمة"، فيقول مثلا؛ لم يكن لدينا ما نساعد به الدول الأخرى، ولكننا كنا نُجيد تحسين علاقات الدول ببعضها فنجمع دولتين ويستفيد كلاهما. ويقول: كان كسر الحواجز الشخصية (كما في قصة لوحة كليميت)، تعويضاً آخر عن ضعف الإمكانيات والمصالح، ولذلك ليس غريباً أن دبلوماسيين كانوا يسافرون للقائه والاستماع إليه، وأنه ما يزال قادرا، الآن، على حشد عشرات الدول والوفود في مناسبات وطنية.
كم هو مفيد إسراع معاهد العلاقات الدولية العربية للاستماع إليه ونقل تجربته للجيل الجديد.