"نحن" .. الأبيض والأسود!

مَن يستطيع الآن أن يقول "نحن" واثقا من صلابتها حين يقولها! من في هذا العالم؛ العربي أو الإسلامي أو العالم الثالث أو العالم الغني أو العالم القوي أو العالم المستكين، يستطيع أن يقول "نحن" وهو واثق من حدودها ومن مقاصدها، وواثق أنها لن تخذله. اضافة اعلان
مَن يملك الآن تعريفاً واضحاً وقاطعاً لهذه الـ "نحن". "نحن" القبيلة أم "نحن" البلد أم "نحن" الطائفة، "نحن" الحزب أم "نحن" العائلة، "نحن" النخبة أم "نحن" الشارع والجمهور، "نحن" مع موتانا أو بدونهم، "نحن" مع حلفائنا الجدد أم مع الذين للتوّ كنا معهم بخندق واحدٍ حميم وإذ بهم يغرسون في ظهورنا الأسلحة ! "نحن" الوطنية أم "نحن" القومية، "نحن" الأيديولوجية أم "نحن" الجغرافية أم "نحن" النسب أو الحارة الضيقة. "نحن" الفضفاضة، التي تضيق كلَّ يوم أو تتّسع، تلتهم نفسها، تتفتَّت أو تتورَّم. لم يعد ثمة حدود واضحة لـ"نحن"، لم تعد أيُّ "نحن" كافية للصمود أمام أي اختبار صغير. ولم تعد ثابتة أبدا. "نحن" مساء غيرنا صباحا، و"نحن" هنا غيرنا هناك، وغيرنا بعد عشرين مترا. حتى لو كانت هذه الـ "نحن" تضم مجرد إثنين، فهي عرضة كل يوم للاختبار العميق، والمؤلم، وللتشكيك وللتحقيق، حتى إن الظلَّ ذاته لم يعد واثقا في صاحبه!
لم يعد ثمة "نحن" الصلبة والمتماسكة والجوهرية، والتي نخبئها ككنز، ونراهن عليها حين تتفسَّخ كل "نحن" سواها. كل هذه "الجماعات" الواهمة سرعان ما تتفتَّت أمام أي سؤال وتتفرع إلى أكثر من " نحن" صغيرة وجديدة.. وصار بمقدور الفرد أن يكون جزءاً في أكثر من "نحن" دون أي سؤال أخلاقي. تبدَّدت كل تلك الأحلام المجتمعة معاً، التي رسمناها معا في سنين الطفولة الزرقاء والخضراء، حين كانت الشوارع بالأبيض والأسود لكنَّنا كنّا نملك من الجسارة أن نلون حتى الماء! لم يعد لأحد الآن شيخه، أو طريقته، أو فكرته، وصارت الـ "أنا" أكثر سمنة من أي "نحن"، حتى بدا الناس كما لو انَّهم كلّهم يتحدثون في وقتٍ واحد في جمع ضخم بلا آذان؛ ولكنّ بأفواه عجولة ونشطة!
"نحن" متشدِّدة حين نتحدث عن "الدين"، و"نحن" متراخية ويائسة حين نتحدث عن الهوية، و"نحن" انتهازية وطامعة حين توزَّع الغنائم، "نحن" خاشعة عند ذكر الأولياء وفظة غليظة القلب حين تهدم مقاماتهم، "نحن" التي تُعدِّدُ آباءها وأنسابها الأصيلة ثم تجد نفسها في الحرب وحيدة واحدة؛ كأنها لم تلد ولم تولد ! ربما هو الآن زمان الفرد الذي عليه أن يحمل كيس آلامه الثقيل على ظهره، وإكليل شوكه، ويمشي في الأرض مثل نهر؛ يحفر طريقه المفردة. صارت الـ"نحن" التي تتشدَّقُ بخبطة أقدامها الهادرة وهما، وكلّ صورها الجماعية قصقصتها الريح؛ وحمل كل فرد جزأه من الصورة ومشى وحيدا مختالا بـ "أناه" المنتفخة، فيما لا ندقِّقُ كثيراً "فيمن شحمهُ وَرَمُ".