نحو تنظيم سياسي واجتماعي جديد للدول والمجتمعات

تتشكل المدن والدول والمجتمعات في اتجاهات مختلفة جذريا عما دأبت عليه لقرون عدة، اليوم تنهار المنظومة التي شكلت قصور الحكم وساحات المدن وأسوارها وجامعاتها ومدارسها واتصالاتها، وتتحول إلى خرافة منتهية الصلاحية، لكن ما نزال في حاجة إلى اكتشاف ما هو مكتشف، وكما تأخرنا عدة قرون لنتحول إلى دولة حديثة يبدو أننا في حاجة إلى مدة زمنية لنتحول إلى مدن ومجتمعات شبكية.اضافة اعلان
ولشديد الأسف لا يمكن تجاوز ما أصبح عديم الجدوى والنفع في تنظيم الدول والمجتمعات إلا باكتشاف الوهم الذي يحرك المجتمعات والدول، والمصالح والأفكار وأسلوب الحياة، والأسواق والسلع، والمواقف والفهم والسلوك الديني والفكري والتسويقي والتجاري. ثم أن نحاول تتبع المتوالية الناشئة عنه؛ من مناصب ومصالح، ونصب واحتيال، وهدر وخواء، وسياسات وتشريعات. ومن غير التحرر من هذا الوهم، فلن نكون قادرين على التصحيح أو وقف دوامة الفشل! ففي بناء المعرفة، نحتاج أن نعرف. لا بد أنها قاعدة متفق عليها، ويجب أن يصاحبها إجماع على أن حجب المعرفة هو بالضرورة خطة واعية للاقصاء والتهميش، وبطبيعة الحال حماية وصيانة الفشل.. الأساليب والتقنيات العبقرية لصناعة الفشل وحمايته.
تحتاج النخب السياسية والاقتصادية المهيمنة اليوم أن تصدق أنها في منافسة صعبة. وأنها تواصل إدارتها للمؤسسات والموارد متظاهرة بأن شيئا لم يحدث،  وتبعث برسالة للأفراد والمجتمعات مفادها يجب أن تؤمنوا بما نقول، وأن تتظاهروا أنكم لا تتظاهرون بالتصديق.
صحيح أن الوهم والخرافة قادران على التأثير والتوجيه والعمل لأجل الغايات نفسها التي تعمل لأجلها الحقيقة. وليس بالضرورة أن تكون الأوهام سيئة في أهدافها وغاياتها، وليس بالضرورة أن تكون الحقيقة حسنة الأهداف والغايات. فالحقيقة والوهم مستمدان من مصدر منشئ واحد، هو الخيال، وكما قال ابن عربي "لولا الخيال لكنا اليوم في عدم". وبالطبع، فإن الوهم والحقيقة مفيدان في اللحظة التي يؤديان فيها الغاية نفسها بالقدر نفسه، لكن الخرافة لا تستطيع الاستمرار في تقديم الفائدة المرجوة؛ إذ هي تعمل في شروط معينة يسعى الناس عادة إلى التخلص منها، وتقع الكارثة عندما يرتقي الإنسان في علمه ومعرفته، ويظل متمسكا بخرافات كانت تفيده وهو أقل معرفة.
اليوم تتحول المدن الكبرى والمؤسسات إلى عشوائيات اجتماعية وحضرية لم تعد السلطات قادرة على إدارتها بالنظام الذي تعودت على استخدامه، ولم يعد الناس قادرين على تنظيم أنفسهم ومدنهم كما كان الحال قبل الدولة الحديثة، وفي ذلك يتشكل واقع مشوه وفاسد لا ينتمي إلى دول ومدن "المطبعة" بما هي منظمة ومنضبطة ونمطية، ولا ينتمي إلى مدن ومجتمعات مستقلة وقادرة على إدارة مواردها والولاية على مؤسساتها وأولوياتها واحتياجاتها، وفي هذه المتوالية تنشأ طبقات ومصالح فاسدة ومشوهة، ويتحول الفساد إلى منظومة تملك قواعد اجتماعية وتحالفات سياسية، تجد مصيرها وفرصتها في الدفاع عن الفساد وإدامته والتصدي بيأس للإصلاح والطبقات الاجتماعية والاتجاهات السياسية المطالبة بالإصلاح.
وفي أزمة الناس الاجتماعية والثقافية والروحية، والشعور بالغربة وقسوة الظروف والحياة، تكون الإجابة السهلة والعملية هي التدين. فيقبل الناس على التدين في بحثهم عن المعنى والجدوى، ولمواجهة الشعور بالضآلة والضياع في هذه المدن العشوائية القاسية. وتنشأ حول التدين والقرابة منظومة اجتماعية وسياسية قوية ومتماسكة، لكنها منفصلة عن أولويات الناس ومشكلاتهم. وهكذا تستمر متوالية الشر بلا توقف ولا حدود!
في المقابل، فإن عمليات تنظيم اجتماعي وعمراني ملائمة للناس يمكن أن تحوّل المسار، وتنشئ متوالية تقدم وازدهار!