مالك العثامنة
ضمن الروتين اليومي لي في القراءات الصباحية المبكرة جدا وهي كثيرة وتشمل كل ما يتيسر لي قراءته في منابر تكاد تغطي الكوكب كله (وهذا متاح بسهولة اليوم بفضل الانترنت)، فإن المشهد الأردني من تلك القراءات أعتمد فيه مصادر محدودة منها صحيفة الغد التي أتشرف بالكتابة فيها، والمقالات الوازنة في الصحيفة هي من ثوابت ما أقرأ.
لسبب شخصي “يحدث لكل الناس” غفلت عن قراءة المقال قبل الأخير للزميل مكرم الطراونة والذي سبق مقالي السابق عن استطلاع مركز الدراسات الإستراتيجية للجامعة الأردنية.
مقالي المنشور لاحقا لمقال الزميل الطراونة بفاصل يوم واحد، قرأ الاستطلاع من زاوية مختلفة تماما، وفي حديث هاتفي ودود بيني وبين الأستاذ مكرم، أبهجني حقا أنه سعيد لنشره من باب نشر الاختلاف والتعدد في الآراء (وتلك عادة حميدة من زمن الصحافة الجميل).
عدت لمقال الزميل العزيز، لأجد انه انتقد بشدة استطلاع المركز واستند في رؤيته إلى زاوية بعيدة عن زاويتي، وهي زاوية الدفاع عن الجهد الإعلامي “اليائس والمشروع” للصحافة اليومية في تثبيت حضورها عند المتلقي.
بعيدا عن المقاربة بين المقالين، فإنني أرى في طرح الزميل دعما لما أريد قوله دائما: هناك استخفاف بالصحافة الأردنية ومنظومة الإعلام الأردني عموما، ولهذا أسباب عديدة تراكمية أوصلتنا إلى حالة التردي في المنتج الإعلامي الراهن، ومشقة الإقرار بجهد الصحافة المحترفة “القليلة” في محيط إعلامي يضج بلزوميات ما لا يلزم.
هناك مسؤولية كبيرة على الدولة عبر سياسات طويلة من توظيف “الإعلام” في الأزمات السياسية الداخلية وفي مراحل سابقة ومبكرة كانت هناك رؤى أمنية حينا، ورؤى مزاجية “فوقية” تعبث في تركيبة المنظومة الإعلامية “والصحافة جزء أساسي منها” فتم تفتيت “الاحترافية” عبر تحويل الصحافة إلى مهنة من لا مهنة له، ووضعها سلما للتسلق الاجتماعي النخبوي وتهميش العمل المهني المحترف.
الصحافة الورقية لم تمت ولن تموت بالمناسبة، وهذا اعتقاد واهم انتشر مع بدايات انتشار الانترنت، وفي أوروبا ” حيث أعمل وأعيش” هناك زيادة في الصحافة المطبوعة ورقيا خصوصا في الحقبة الكورونية الأولى، وهذا لا يعني انحسار أهمية الإعلام الرقمي واسع الانتشار والمتاح بسهولة كبسة زر، لكن هذا الانتشار الرقمي يتضمن في محتواه الهائل التضليل والأخبار الكاذبة ومنابر الإشاعات التي تتحول إلى حقائق عند الكثيرين فيتداولونها، مما يجعل الصحافة المضبوطة مهنيا مرجعية بدأ المتلقي العودة إليها للتحقق والتثبت وتكوين الرأي الصحي والسليم.
في الأردن، نحن أمام فرصة “مخاض” جديدة للصحافة المهنية المحترفة، الكفاءات موجودة وكامنة تنتظر موطئ قدم لإثبات وجودها، ولا يعوقها إلا قرارات شجاعة وحاسمة كما هي حازمة بضبط العمل الإعلامي ضمن أطر المهنية وهذا يتطلب أيضا هدم التشويه المتراكم بكل ما يحتويه من متسلقي مهنة طارئين عليها وجدوا الدعم خلال سنوات خلت.
القرار بيد صاحب القرار لضبط مؤسسي في كل أركان الدولة ليعود الخبز إلى يدي خبازه في الفرن، بعد سنوات من وضعه في يد لاعبي الأكروبات والفهلوية السياسية.
هذه مصلحة دولة عليا، وما حدث من أزمات شهدها الجميع مؤخرا، تثبت أن الإعلام ضرورة لرفع الدولة لا تنكيسها “بالجهل والاستغفال” وقت تلك الأزمات.
المقال السابق للكاتب
للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا