نزع فتيل الهجرة

مواطنون بريطانيون يصوتون لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي - (أرشيفية)
مواطنون بريطانيون يصوتون لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي - (أرشيفية)

بيتر ساثرلاند*

لندن - لقد فعل الناخبون في المملكة المتحدة ما لا يمكن تصوره باختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي –والاتحاد هو مشروع نبيل بحق، والذي تمكن من ترويج السلام والاستقرار في طول القارة وعرضها لأكثر من نصف قرن على الرغم من عيوبه. وفي أعقاب التصويت، تراجعت الأسواق وأعلن رئيس الوزراء البريطاني استقالته. والآن، أصبحت المملكة المتحدة منقسمة أكثر من أي وقت مضى، وربما تكون عواقب الخروج –على المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والعالم – قد بدأت للتو.اضافة اعلان
يشكل الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي انتصاراً للخوف على المنطق. وقد استغل القائمون على حملة "الخروج" -بأساليب كاذبة ومتهورة- انعدام ثقة الناس بالنخب الحاكمة واستياءهم من تصاعد انعدام المساواة والتغيير الاجتماعي السريع، من أجل تحقيق مصالحهم الذاتية. وفي حملة لا هوادة فيها ضد الهجرة، قام دعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع الصحافة الشعبية بالترويج لحقائق مشوهة وأكاذيب صريحة عن تأثير الهجرة، ما أقنع الناخبين الخائفين والمحبطين بأن الهجرة والاتحاد الأوروبي الذي يتطلب حرية التنقل بين الدول الأعضاء، يتحملان المسؤولية عن جميع مصاعب بريطانيا الاجتماعية تقريباً. وكان العديد من اللاعبين الرئيسيين في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي معادين للاتحاد منذ عقود.
من الممكن رؤية هذه النزعة في أجزاء كبيرة من الدول المتقدمة، حيث يجادل الديماغوجيون الشعبويون بأن الهجرة تستنزف الموارد الوطنية، وتعمل على تآكل السيادة الوطنية، وبأن الطريقة الوحيدة لاستعادة السيطرة -حسب ادعائهم- هي إغلاق الأبواب والانسحاب من التحالفات الدولية، والبقاء داخل الحدود الوطنية.
بطبيعة الحال، ليس كل الذين صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي أو غيرهم في أنحاء العالم ممن يشعرون أيضاً بأنه قد تم التخلي عنهم، فعلوا ذلك لأسباب تتعلق بالتعصب والقومية المتشددة؟ لكن العديد منهم تقبلوا القصة السخيفة التي يروج لها الشعوبيون بأن بلادهم تتعرض لاجتياح المهاجرين، مما سيفاقم التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجههم. وفي أوروبا، سلطت أزمة اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط -التي كان السبب الرئيسي وراءها هو التهجير القسري للناس الذين يفرون من الحرب والعنف- سلطت الضوء على تلك المخاوف في الأشهر الأخيرة.
يتطلب إجراء أي نقاش عقلاني عن الهجرة أولاً تحدي الخطاب المدمر الذي يروج له أولئك المصابون برهاب الأجانب. والحقيقة هي أن الهجرة لا تستنزف الميزانية الوطينة، بل إنها يمكن -على العكس من ذلك- أن تضخ ديناميكية جديدة في المجتمعات المضيفة التي تعاني من الشيخوخة. ومما لا شك فيه أن هناك تحديات تواجه دمج المهاجرين، ولكن تلك التحديات يمكن التغلب عليها.
لكن المواقف التي اتخذها بعض أعضاء المجتمع الدولي حتى الآن، وخاصة الاتحاد الأوروبي، قوضت وجود استجابة جماعية كافية لأزمة اللاجئين. وقد عانى الاتحاد الأوروبي من الفشل، ولكن هذا الفشل لا يتعلق بمؤسساته، بل بالعديد من الدول الأعضاء فيه. وفي واقع الأمر، اقترحت المفوضية الأوروبية بشكل عام طرقاً مناسبة لمعالجة الأزمة. والعديد من الدول الأعضاء، وخاصة ألمانيا والسويد، استجابت للأزمة بشكل مناسب.
فقد حثت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على وجه الخصوص أعضاء الاتحاد الأوروبي على أن يظهروا التزامهم بالأخلاق الإنسانية، من خلال تحمل مسؤولياتهم الدولية لحماية طالبي اللجوء. لكن القادة في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وخاصة في وسط وشرق أوروبا، لم يظهروا أنهم يتحلون بأي صفة من صفات القيادة البناءة.
يعيش 250 مليون إنسان حول العالم خارج بلدانهم الأصلية. وقد تشرد 65 مليون إنسان منهم بسبب الصراعات والكوارث الطبيعية والظروف الصعبة الأخرى. وحتى الآن هذا العام، وصل حوالي 227 ألف شخص إلى أوروبا عن طريق البر أو البحر، كما غرق 3000 شخص آخر تقريباً في البحر الأبيض المتوسط بينما كانوا يحاولون الوصول إلى بر السلامة، وما يزال عشرات الآلاف من المهاجرين واللاجئين عالقين على حافة القارة.
وهذه أزمة إنسانية. ولكن العديد من الدول الغنية لم ترقَ بعد إلى مستوى التزاماتها، ولم تفِ حتى بتعهداتها المحدودة المتعلقة بإعادة التوطين. وكانت الحقيقة المؤلمة التي ظهرت من التصويت البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي هي أن الوقت قد حان لكي يغير المجتمع الدولي -وخاصة الاتحاد الأوروبي- من نهجه المتعلق بتدفقات الهجرة، أو أنه سيواجه تكلفة أكبر.
من المهم معرفة أن لا أحد يجادل لمصلحة الهجرة غير المنضبطة. وعوضاً عن ذلك، يدعو دعاة الهجرة –بمن فيهم أنا شخصياً- إلى حماية اللاجئين وإلى تدفقات منضبطة للأشخاص عن طريق جعل الممرات القانونية متاحة بشكل أكبر. وهذا سيتطلب تعاوناً على المستوى الدولي بدعم من الإجراءات الوطنية والمحلية المناسبة.
سوف تتضمن مثل هذه المقاربة تحسين مراقبة الحدود. لكن تركيزها سيمتد إلى ما هو أبعد من الحد من تدفقات المهاجرين ليشمل خلق فرص وتوفير موارد كافية للخدمات العامة، من أجل التخفيف من تأثير القادمين الجدد، والتحقق من أن المقيمين المحليين لا يشعرون بالتأثير السلبي لاستقبالهم المهاجرين في مجتمعاتهم. وقد تبنت ألمانيا مؤخراً إجراءات جديدة لتوفير التدريب على اللغة وتسهيل اندماج اللاجئين. وفي كندا، يمكن للمجتمعات تبني القادمين الجدد برعاية من القطاع الخاص.
تظهر الأبحاث أن الاستثمار المبدئي يمكن استرداده في فترة لا تتجاوز الخمس سنوات فقط بسبب زيادة النشاط الاقتصادي الناتج عن القادمين الجدد. والمفتاح هو تمكين الهجرة القانونية. وبهذه الطريقة، وعوضاً عن السماح للمهربين وأصحاب العمل المستغلين بكسب المليارات على حساب المهاجرين، فإن بإمكان الدول جمع المزيد من الضرائب من خلال التوظيف الرسمي.
إننا نحتاج بشدة إلى رؤية جديدة جريئة ومعززة بقيادة ملتزمة من أجل التعامل مع تلك القضايا المعقدة من أجل طمأنة الناخبين، مما سيمنع المزيد من البلدان من الانغلاق على نفسها وتهديد عقود من التقدم متعدد الأطراف المتعلق بحقوق الإنسان. وكما يتضح من موجة التأثيرات الناتجة عن الاستفتاء البريطاني، فإنه لا يوجد بلد -بما في ذلك بريطانيا نفسها- يعتبر جزيرة في عالمنا الذي يعيش في ظل العولمة اليوم.
مع ذلك، لدينا سبب للشعور بالأمل. وتعني حقيقة أن الجيل الشاب في بريطانيا صوّت بأغلبية ساحقة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. إن المفاهيم التقليدية المتعلقة بالهوية الوطنية والسيادة لا تحمل نفس القوة العاطفية لدى جيل الألفية مقارنة بالأجيال الأكبر سناً. فالشباب الذين نشأوا مع حرية أكبر للوصول إلى العالم الخارجي من خلال السفر والإنترنت يشعرون براحة أكبر في تعاملهم مع التنوع الثقافي والهويات المتعددة. كما يوجد لديهم فهم أفضل للفرص التي توفرها العولمة، على الرغم من أن بطالة الشباب ما تزال مشكلة مزمنة في العديد من البلدان.
وكما هو الحال مع الشباب البريطاني، يتوجب علينا التطلع إلى المستقبل وليس إلى الماضي، وتبنّي التعاون الدولي وليس الانعزالية. إن مهمة استنباط الحلول المبتكرة هي مهمة صعبة للغاية. ولكن يمكن تحقيق مقاربة أفضل في التعامل مع الهجرة، وهي مقاربة مفيدة لجميع المعنيين. وسيكون البديل باهظ الكلفة للغاية من الناحية الإنسانية والسياسية والاقتصادية. ويجب أن لا ينتصر الخوف في نهاية المطاف.

*الممثل الخاص للأمين العام للامم المتحدة للهجرة الدولية والتنمية، وهو المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية، ومفوض الاتحاد الأوروبي للمنافسة، والنائب العام في ايرلندا.
*خاص بـ"الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".