نصف ميّت

ذهبتُ إلى الطبيب أشكو ألماً غامضاً، لكنّي عجزتُ عن تحديد مكان الوجع، كما أنّي لم أعطه زمناً محدداً لبدء الآلام. أجرى لي الطبيبُ فحوصات شاملة أثبتت أني بكامل صحتي ولياقتي لمزاولة الحياة ومتعها. لم أقتنع، ذهبتُ إلى طبيب آخر، اعتقدتُ أنه أكثر خبرة، إلاّ أن الفحوصات الطويلة أثبتت أيضاً أنّي "عال العال".

اضافة اعلان

رفضتُ تصديق النتيجة، فاتجهت إلى مستشفى كبير، طلبتُ الدخول والإقامة حتى الاستشفاء التام. تلوّيت على مدخل الطوارئ، وأصدرتُ أنيناً مشابهاً للنواح العراقي، وسقطتُ على الأرض مثل الإجاصة الفارغة. ظننتُ أنّي أدّيتُ ببراعة دور نصف الميّت، لكنّ الطبيب المناوب، رفض إدخالي، بعد أن وضع سماعته على صدري، واكتفى بصرف دواء كحّة بنكهة الفراولة.

أمّي وصفت لي أعشاباً عصيرها أصفر مصحوبة بأدعية تلبسني ثوب الصحة والعافية، وجارتي تمتمت وكفها العجوز على جبيني وقرأت أقداراً سوداء في خطوط كفّي، أبي فسّر حالتي بأنها رُهاب من أنباء الموت على قناة العربيّة، ووصف لي سفراً صيفياً إلى "أوسلو". لكن لا أحد يريد تصديق أني مريض، وأنّ حالتي الصحية تقترب من اليأس، وأنّ الخطوات التي تقرّبني من القبر أقلّ من أصابعي حين تكون مكتملة.  

الناس ينتظرون اصفرار لوني، وسقوط أسناني، وجفاف جلدي، وعجزت اصبعي على الوقوف للشهادة، ليعلنوا في الصحيفة الحكومية بلون أسود صريح أني متُّ بعد تلكؤ طويل، وتشبث عنيد، وصراع مرير غير متكافئ مع المرض. يريدون لي الموت على دفعات طويلة الأجل، وأن تسودّ بشرتي كقشرة الموز، وتصاب يدي اليمنى وقدمي اليمنى بالشلل، وأؤدّي الصلاة على كرسي ثابت، برأس متحركة.

ينبغي كي يصدقوا أنّي مريض أنْ أذوي، أتلاشى، وحين أختفي تماماً يقولون في السرادق التعيسة بعد صلاة العشاء: "رحمه الله كان ميّتاً كريماً"!  

أنا مريض يا أطبّاء العالم!

أعرفُ أنّي لا أستطيعُ إثبات ذلك بالسعال والهزال، ولا بقياس الضغط بالجهاز الزئبقي، لا أعراض للمرض على لون اللسان، والسكر والملح في جسمي لا يزيدان ولا ينقصان، كما أن نطقي ما يزال سليماً حتى لو كان الحرف ضاداً متحرِّكاً، وأرى بوضوح في العتمة السوداء أو البيضاء، أما وظائف الكبد فإنّها تعمل بكل طاقتها، والقلب خال من أسباب الموت المبكر عشر سنوات. لا علة أيضاً في أطرافي، أستطيع الوصول إلى آخر تمرة في النخلة.

لكنّي مريضٌ يا أطبّاء العالم، يمكنكم أن تعقدوا مؤتمراً في عاصمة باردة من أجل هذا المرض، وتختلفوا في وصفه، وبعد ثلاثة أيّام من الإقامة الفندقية في النجمة السابعة، تتفقون على تسميته بـ"مرض نادر"!