نظام عالمي جديد يتخلَّق

وأخيراً... انتهى عهد بوش الصغير وإدارته الكارثية بكل المقاييس، أميركياً وعالمياً، وبدأت تباشير عهدٍ (بل وربما عصرٍ) جديدٍ آخر آتٍ، لا تحملها نسائِم القادم الأسمر إلى البيت الأبيض تحت يافطة "التغيير" بالذات، بقدر ما تحملها رياح نظام عالمي جديد، ما انفك يُنبئ بتحوّل عاصف في النفوذ وأنماط السلوك على المستوى الكوني.

اضافة اعلان

فالعالم اليوم يمر بتغيير لموازين القوى يبدو واضحاً للعيان في انكفاء القوة الأميركية على نفسها تحت وطأة الأزمة المالية الحادة التي تعصف باقتصادها القومي، وتعثّر مشاريعها في كُلٍّ من أفغانستان والعراق. والأرجح أننا سنشهد خلال السنوات القليلة المقبلة المزيد من التخثّر والتآكل في سلطة النظام العالمي الراهن، وستظهر معالم نظام جديد آخر يعكس المتغيِّرات العميقة التي طرأت في العالم خلال نصف القرن الماضي، والتي جعلت النظام العالمي الأحادي الحالي يبدو عاقراً وعاجزاً عن حُكم العالم.

ورغم الأجواء القاتمة السائدة والتي تشهد تراجعاً واضحاً لقطب النظام العالمي الأعظم (الولايات المتحدة) اقتصادياً وسياسياً، إلا أن العالم، وعلى النقيض من حالة القائد الأميركي، أخذ في التقدم بالاتجاه الصحيح من نواحٍ كثيرة. لهذا نشهد ظاهرة صعود لافتة لدول وقوى جديدة - قديمة، بدأت تبحث لها عن مكانة ودور تحت الشمس، فلا تجده في عصر "السلام الأميركي Pax Americana"، وعلى رأس هذه الدول، الصين، التي ستصبح أكبر اقتصاد في العالم خلال عقد أو عقدين، والهند، التي تسير بتؤدة ولكن بثبات وراء جارتها الصين، واليابان، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والبرازيل، العملاق الأميركي اللاتيني الصاعد، وجنوب أفريقيا، هذا بالإضافة إلى الاتحاد الأوربي وروسيا بالطبع.

وإذا كانت هذه البلدان هي التي ستُشارِك أميركا قيادة النظام العالمي خلال العقود المقبلة، إلا أن البنية التعددية لهذا النظام ستتميز كذلك، وبشكل أساسي، بتوزيعٍ جديد للقوى يشمل باقي العالم. إنه نظام متعدد القطبية ولكن بصيغة مغايرة وغير مألوفة أو مسبوقة، إذ أنه يتّجه لأن يكون أكثر تشاركية من أي زمنٍ مضى، وهذا يعود ببساطة إلى طبيعة التحول القائم الذي مَسّ، وما يزال يَمُسّ، مفهوم القوة كما علاقاتها وأنماطها. فأميركا ستواصل لأسباب عديدة لعب دور القائد العالمي على المستويين العسكري والسياسي، لكن في كل المستويات والأبعاد الأخرى، الصناعي والمالي والاجتماعي والثقافي، يتبدل توزيع النفوذ مبتعداً عن السيطرة الأميركية. وفي مجال الحرب والسلم، علم الاقتصاد والمشاريع التجارية، الأفكار والفن، سيولّد هذا الأمر مشهداً مختلفاً جداً عن ذاك الذي عرفناه وألفناه حتى الآن، مشهدٌ تُحدده وتُديره أماكن كثيرة وأشخاص كُثُر.

إننا نشهد بحق التحول الكبير الثالث في النفوذ خلال التاريخ الحديث، والذي وصف المفكر والمحلل السياسي الأميركي فريد زكريا تجلياته ببراعة وتبصُّر في كتابه "عالم ما بعد أميركا" الصادر منتصف العام الفائت. فإذا كان صعود العالم الغربي في القرن الخامس عشر الميلادي هو التحول الأول، الذي انبثق عنه العالم كما نعرفه الآن: العلوم والتكنولوجيا، التجارة والرأسمالية، الثروات الصناعية والزراعية. كما أنه أدى إلى السيطرة السياسية المطولة لدول العالم الغربي، فإن صعود الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وتحولها إلى بلد صناعي كان هو التحول الثاني، وقد اكتسب طابعاً فريداً بعد أن أصبحت أميركا الدولة الأكثر نفوذاً في العالم، وباتت أقوى من أي مجموعة محتملة من الدول الأخرى. وخلال عصر "السلام الأميركي"، دارت عجلة الاقتصاد العالمي وتسارعت بصورة دراماتيكية. وهذا التوسع هو الذي أسس للتحول الثالث الكبير في النفوذ في العصر الحديث، والمتمثّل في صعود بقية العالم.

وعلى مدى جيلين أو ثلاثة، فإن نظاماً كهذا سيبقى هو الوحيد الممكن والمحتمل؛ نظامٌ تحكمه الدبلوماسية متعددة الأطراف وأقطابٌ يدور حول كُلٍّ منها مجموعة من الدول، أو لنقل معسكرات متنافسة، اقتصادياً وسياسياً على الأرجح وليس عسكرياً بالضرورة.

إنه عالم أميركا وما بعدها في الوقت نفسه؛ عالمٌ يظل تحت قيادتها ولكنه يُملي عليها - بعكس الواقع الراهن - شروطه ومعاييره التي تتحدى الأحادية بالضرورة ولا تقبل التعايش معها أو تحت ظلالها، لاسيما وأن الدول/ القوى المنافسة الصاعدة الأخرى والتي بدأت تحتل مواقعها في المشهد الكوني الجديد، ماضيةٌ بثبات في تطلعاتها ومحاولاتها لكسر السيطرة الأميركية على النفوذ العالمي. وفي حلبة نظامٍ جديدٍ ما فتئ يتخلّق شيئاً فشيئاً، ستستمر اللعبة المعهودة بين القوة القائدة والقوى المتطلعة للحلول مكانها، وإن بشكل حَذِرٍ وأكثر بطئاً، إذ إن كل واحدة من هذه القوى - وليس أميركا وحدها - تنتابها كثير من النواقص الأساسية؛ فأوربا مُجزّأة بحكم عدم اكتمال وحدتها وأزمتها الديمغرافية، وروسيا تعاني من تذبذب وضعها الاقتصادي والديمغرافي، واليابان ما تزال محكومة بعزلتها ووضعها الديمغرافي أيضاً، أما الصين والهند فستظلان تركزان على إدارة نموهما الاقتصادي وتحسين مستوى معيشة العدد الهائل لسكانهما، بما يفوق اهتمامهما بإدارة التنافس في سباق القيادة العالمية. وهذا هو السبب الذي قد يُفسِّر لنا: لماذا لن تنتهي اللعبة الكونية الآتية بـ "كُش ملك" يرمز إلى انتصار قوة واحدة، وإنما بتعادل يُجسِّد عجز كل من هذه القوى على السيطرة الفعلية والمطلقة.

والحال أن العالم الذي سيُخلَق لن يكون إمبراطورية، تسيطر عليه قوة واحدة، بل سيكون نظاماً مُركّباً، تتوازن فيه مجموعة من الدول وما فوق الدول، على مستويات متكافئة، حتى إذا لم تكن متساوية بالمعنى الدقيق للكلمة. صحيح أن أميركا ستظل محتفظة بتأثيرها في النظام العالمي، وأكثر من أي طرف دولي آخر، ولكن قوتها وهيمنتها ستكونان أقل في عالم متعدد الأقطاب مقارنةً بما كانت تتمتع به لعدة عقود. وفي ضوء التراجع النسبي في اقتصادها، لن تتمتع الولايات المتحدة بنفس المرونة في الاختيار من بين عدة خيارات سياسية، في الوقت الذي ستكون فيه القوى/ الدول الصاعدة الأخرى أكثر حرصاً على المشاركة في صُنع حاضر العالم ومستقبله وفق رؤيتها الخاصة، بعد زمن طويل من التجاهل الأميركي والاستفراد بمقود القيادة العالمية. 

* باحث وكاتب يمني

خاص بـ"الغد" بالتنسيق مع مشروع منبر الحرية

www.minbaralhurriyya.org