نظرية المؤامرة ومصادر الجهل

كيف يمكن أن يكون هناك مصادر لـ"الجهل"، وهو بطبيعته سلبي؛ يفيد تلقائياً غياب المعرفة؟ كان هذا هو السؤال الذي طرحه صديق كارل بوبر (Karl Popper)، أحد أكثر مفكري القرن العشرين تأثيراً، عشية إلقاء الأخير، في العام 1960، محاضرته المعنونة "في مصادر المعرفة والجهل" (والتي ضمنها لاحقاً في كتابه الصادر، لأول مرة، في العام 1963، "تخمينات وتفنيدات: نمو المعرفة العلمية"). أما الإجابة، فقد تمثلت خصوصاً، برأي بوبر، في "نظرية المؤامرة".اضافة اعلان
باختصار، فإنه إذا كان "رواد المؤامرة"، من سياسيين ونخب، يمارسون التضليل بكامل وعي، لتحقيق مصالحهم ومنافعهم؛ فإن المواطنين الذين يحملون هذه النظرية ويضمنون شيوعها وبقاءها، إنما يفعلون ذلك بحكم "الجهل" الذين يعترض رغبتهم البدهية في تبرير أحداث مبهمة، فلا يكون من خلاص (يصون الغموض في الواقع ولا يجليه أبداً) إلا في "نظرية المؤامرة"، باعتبارها "مكائد" يدبرها أناس أو فئات أو دول ذوو سلطة ونفوذ وتأثير، لكنهم قادرون في الوقت نفسه "على إخفاء دورهم هذا"، بحسب كاس سنستاين وأدريان فيرميول في دراستهما "نظريات المؤامرة".
وإذا كان هذا الجهل قد يتولد عن الشكل الأولي الأبسط لغياب المعرفة، وبما يجعل منطقياً افتراض أن مؤيدي "نظرية المؤامرة" ينتمون إلى الفئات الأقل تعليماً وثقافة؛ فإن الأخطر منذ ذلك هو الجهل الذي تتم صناعته وإشاعته من قبل "رواد المؤامرة"، فيطال في تأثيره فئات يفترض امتلاكها قدراً من التعليم والثقافة، قد يكون رفيعاً. وبهذا المعنى، يصير للجهل مصادر؛ إذ يغدو، بحسب بوبر "لا مجرد افتقاد للمعرفة، وإنما عملاً تقوم عليه قوة (فئة) تتوخى إيقاع الأذى، تشكل مصدر تأثير سيئ وخبيث، يضلل عقولنا ويسممها، ويغرس فينا عادة مقاومة المعرفة".
لكن "الجهل" في أعلى مستوياته، قد يبدو في "التجهيل الطوعي" للذات، من خلال ما يسميه سنستاين وفيرميول "تدفقات المؤامرة" (Conspiracy Cascades)، والتي تجعل الشخص متبنياً لموقف سابقيه في ادعاء "نظرية المؤامرة" في تفسير حدث ما، رغم عدم قناعة الشخص أو شكوكه على الأقل في صحة هكذا تفسير. أما الدافع، فهو الحرص على الحفاظ على المكانة والسمعة، ولربما الامتيازات، ضمن الفئة التي ينتمي إليها هذا الشخص.
بالنتيجة، لا يمكن تفسير تبني مواطنين من العامة لـ"نظرية المؤامرة" بزعم أن هؤلاء يعانون مرضاً نفسياً، يتمثل خصوصاً في "الارتياب"، لاسيما وأن هذه "النظرية" توجد مع اختلاف الدرجة (كما الفساد تماماً) في كل المجتمعات، وقد تشمل أغلبية مجتمع ما. لكن ما يجعل العالم العربي استثناء عالمياً بارزاً هو شيوع "نظرية المؤامرة" على مستوى النخب. وهو ما يُعد "مفيداً" في كونه مؤشراً على فساد هذه النخب تحديداً؛ سواء لكونها جاهلة فعلاً، أو لكونها مسؤولة عن جريمة "التجهيل" عن سابق إصرار وتصميم. يكفي دليلاً على ذلك، ما أوصلتنا إليه هذه "النخب المؤامراتية"، منذ ما قبل "الربيع العربي"، ثم موقفها لاحقاً من الشعوب حين ثورتها على الفساد والاستبداد. فبعد عقود من الصمت والتبرير لأنظمة الاستبداد باسم "المؤامرة" الخارجية؛ استذكرت تلك النخب "القومية العربية" باعتبارها ذريعة للتدخل في شؤون الشعوب الأخرى، إنما فقط لإدانة هذه الشعوب، بجريمة الاشتراك في "مؤامرة" جديدة  وإن كان هدفها هو الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية!