نظريتان في تفسير الفساد (4-2)

تنسب النظرية الثانية في تفسير الغش والكذب والسرقة أو الفساد عامة إلى قوى أو دوافع نفسية واجتماعية واقتصادية وبيئية. وهذه القوى أو الدوافع نوعان متناقضان:فمن جهة ننظر إلى أنفسنا كناس أمناء أو نزيهين وشرفاء، فحين ننظر في المرآة نشعر بالرضا عن أنفسنا، فيما يسمى بـ (Ego Motivation). ومن جهة أخرى يضغط علينا الدافع المالي (Financial Motivation) للغش أو الكذب أو السرقة أو الفساد، لما يجلبه لنا من فائدة، أي أننا نرغب في أن نحصل على أقصى ما نستطيع الحصول عليه من مكاسب، مع المحافظة على رؤيتنا لأنفسنا كأناس أمناء أو نزيهين (قدّام الناس). والدافعان في الصراع: كيف نضمن الاستفادة من الغش أو الكذب أو السرقة أو الفساد، وفي الوقت نفسه نحافظ على رؤيتنا لأنفسنا كناس أمينين ونزيهين وشرفاء؟ هنا نحضر مرونتنا العقلية، ومن ذلك أننا قد نسمح لأنفسنا بالغش أو بالكذب أو بالسرقة أو بالفساد لأننا نستفيد من ذلك، مع المحافظة على رؤيتنا لأنفسنا كناس رائعين في الوقت نفسه. ان حالة الموازنة هذه هي جوهر عملية العقلنة أو التبرير، وهي أساس لما يمكن تسميته بعامل المراوغة أو الحسم أو الخط الفاصل (Fudge Factor Theory). ليتضح لك الأمر فكر في آخر مرة عبأت فيها كشف ضريبة الدخل الخاص بك: ماذا أضفت أو أظهرت أو حذفت أو أخفيت (يا ترامب). إنك هنا تلعب بالحدود المرنة لأخلاقك [إلا إذا كنت صارماً كالسيف]. والحقيقة أننا جميعاً – وبلا استثناء – نحاول تحريك الخط الفاصل بين ما نستطيع الاستفادة منه (من اللا– نزاهة أو اللا– أمانة) وبين رؤيتنا لأنفسنا كناس شرفاء، أي دون إلحاق الضرر بهذه الرؤية. وكما قال إسكار وايلد مرة : " إن الأخلاق كالفن وتعني رسم خط في مكان ما". المسألة أو المشكلة: أين نرسم الخط؟ ومع أن معظم الناس لا يعون المعدّل المقبول للغش.. عندهم، إلا أن لكل منهم حداً لما يمكن أن يغش عنده... قبل أن يصبح في نظر نفسه مذنباً. فكّر في قائمة الرسوم التي يسلسلها البنك أو شركة الاتصالات... عليك من لا شيء ودون أن تدري، وإنما لزيادة أرباحها مع احتفاظها بالصورة كشركات نزيهة. يبدو أن الميل إلى الغش... عند البشر ملازم لكل واحد منا. وللحد من هذا الميل يجب توعية الناس بالمعايير الأخلاقية الدينية، والعلمانية، وتذكيرهم بها بين الحين والآخر. إن مدونات السلوك أو مواثيق الشرف وتوقيع جميع ذوي العلاقة عليها مفيد. وإلى جانب ذلك يمكن تعليق إشارات تذكرهم بالمعايير الأخلاقية. وتلعب الشفافية أو السياسات الشمسية (Sunshine Policies) دوراً مهماً في لجم الفساد وإن كانت وحدها لا تكفي. كما يجب على كل مسؤول في الدولة تقديم كشف حساب بما يملك (براءة ذمة) عند تعيينه، ومقارنته بما آل إليه عند انتهاء عمله. كما يجب أن تكون كلفة الغش.. وبخاصة الاجتماعية كبيرة على الفاعل ومن ذلك عدم التسامح مع أول أو أصغر غش أو كذب أو سرقة أو فساد يقع، وألا نظل نكرر مقولة: كلّ ابن آدم خطّاء، أو أن لا أحد كامل. وربما يفيد بدء كشف الضريبة بدعوة المكلف إلى التبرع بخمسة أو عشرة دنانير لمحاربة الفساد، لأن مثل هذه الدعوة تجبره على التفكير في أمانته أو نزاهته سواء تبرع أو لم يتبرع". إن من الصعوبة بمكانة تغيير سلوك البشر، وإن مساقاً في المدرسة أو الجامعة في التربية الأخلاقية لا يكفي، فقد جربوا ذلك في جامعة مينسوتا واستمر الغش، فالغش أو الكذب أو السرقة أو الفساد بعامة معدٍ. التحدي الأكبر إحداث تغيير ثقافي طويل المدى لإحداث تغيير إيجابي في الأخلاق.اضافة اعلان