نقد الخطاب الديمقراطي الغربي (2)

كنا قد اشرنا في المقالة السابقة إلى أن الغرب موغل في عشق تاريخه حتى انه أوهم  العالم انه  أسس للديمقراطية خطابا يعود إلى ممارسة مواطني "أثينا" لهذه الديمقراطية أي إن الديمقراطية فعل غربي بامتياز، ويرتبط بصيغة مدنية وحضارية فهي أجدر أن تكون فعلا أثينيا، وليس فعلا شرقيا باهتا يأتي من بلاد الرافدين أو بلاد الشام أو من الصين أو الهند. أي انه مارس فعل الإقصاء من الامتياز الحضاري عن باقي الحضارات، التي تشير الدراسات الغربية ذاتها إلى أن الحضارة اليونانية نفسها كانت ناقلا جيدا للموروث الحضاري المصري والعراقي والسوري أي تلك الدراسات التي لم تدرس باقي المجتمعات ببعد استشراقي يخفي بشكل فج معالم الثقافات الأخرى ويمهد لاحتلالها ثقافيا وعسكريا بدعوى نشر الديمقراطية والحداثة.

اضافة اعلان

لنرَ في هذا السياق ما يقوله المفكر الأميركي " نعوم تشومسكي" عن دور وسائل الإعلام في السياسة المعاصرة وهو يحملنا على التساؤل عن نوع العالم ونوع المجتمع، وبشكل خاص، بأي معنى من معاني الديمقراطية نريد له أن يكون مجتمعا ديمقراطيا؟ فهناك مفهومان مختلفان للديمقراطية، بحسب رأي تشومسكي: المفهوم الأول هو  أن المجتمع الديمقراطي مجتمع يملك فيه الجمهور وسائل المشاركة بطريقة ذات معنى في إدارة شؤونه، وتكون فيه وسائل المعلومات مفتوحة وحرة.

وإذا بحثنا عن كلمة الديمقراطية في القاموس فسوف نجد لها تعريفا يشبه ذلك وهنالك مفهوم بديل يقول بأنه لابد من منع الجمهور من إدارة شؤونه، وإبقاء وسائل الإعلام تحت السيطرة بشكل دقيق وصارم، ولكن قد يبدو ذلك المفهوم غريبا على الديمقراطية، ولكن من المهم أدراك انه المفهوم السائد، وانه في الواقع موجود منذ زمن طويل يرجع إلى الثورات الديمقراطية الأولى في إنجلترا في القرن السابع عشر.

إذن ثمة خطاب أسس منذ لحظة الولادة الأولى للديمقراطية الغربية نحو النزعة التوسعية الإمبريالية، لنتابع تطور تلك السلسلة من جذورها الأولى  إذ انه ومع الوقت تشكل حول الزعيم شريحة القادة، وقد تشمل في المقارنة الأنثروبولوجية المعاصرة "دونلد رامسفيلد، ديك تشيني" وغيرهما من القادة في النظام الديمقراطي الأميركي، إضافة إلى البارزين في العشيرة، والأقرباء من الزعيم والشخصيات الأخرى، والقيام بتنفيذ الوظائف الكهنوتية "توني بلير"، إضافة إلى المكلفين بالقيام ببعض الأعمال التقنية في تلك المرحلة البعيدة في التاريخ والمنتجة بصورة الديمقراطية الغربية الحالية "الأمم المتحدة وعلى وجه التحديد مجلس الأمن".

وبدعم هذه الشرائح في صيغة الديمقراطية العشائرية تم اغتصاب الصلاحيات السلطوية في المجتمع، وأصبح منصب الزعيم ينتقل بالوراثة، وساعد في تسريع هذه العملية، مبدأ تقسيم العمل ونقل الحصص الزائدة، والملكيات الخاصة التابعة للجماعة إلى زعماء القبائل (الشركات عابرة القومية)، ومع تقسيم العمل حدث التحرر الذاتي للوعي، فإذا كان الإنسان في الجماعة العشائرية المبكرة مرتبطا بالعشيرة بروابط المساعدة المتبادلة، فانه في العصور المتأخرة اكتسب وعيا ذاتيا من خلال سير النشاط الإنتاجي العملي، وبذلك يكون قد دخل في صراع مع من كبله في قيود التنظيم القبلي أي في الواقع الحالي مع الإمبريالية الغربية.

وليس الموضوع المطروح لبحث الإشكال النظري الباحث عن ولادة السلطة والدولة ، لكن ذلك يشكل قاعدة لفهم آلية انتقال الديمقراطية العشائرية إلى الديمقراطية العسكرية، والارتقاء بالزعامة، لم يتم بشكل آلي لتركيب الدولة، كسلطة علنية مستقلة عن المجتمع بتنظيمها لجهاز القمع وتقسيم السكان حسب المناطق، فهل من المجدي القول في طور الانتقال السابق ذلك أن الواقع الحالي للحرب التي أججتها الولايات المتحدة على العراق وقبلها وبعدها الحرب "المسرحية" المفتوحة على الإرهاب، والصراع بين الغرب والشرق يدخل ضمن ذلك السياق؛ التقسيم للمناطق بحيث أن الغرب المسيحي "الديمقراطي" والشرق المسلم "الإرهابي" متصارعان وان العالم بحسب الرؤية الأميركية شطر إلى معسكرين: "إمبراطورية الخير" بزعامة الولايات المتحدة، " ومحور الشر" بزعامة أسامة بن لادن وصدام حسين وحسن نصرالله.

ماذا عن العبر المستخلصة من تاريخ الغرب بحسب ما درسها المفكر اللبناني "جورج قرم"  في كتابه "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" وهي أن القوة لا تعني الحق، والمعرفة لا تعني الحكمة. وان الغرب لا يقر بذلك، ولهذا السبب لم يستطع إقامة نظام إمبريالي مستقر وعادل، سواء داخل حدوده، أم في علاقاته مع المناطق الأخرى من العالم.

الغرب في تبنيه أدوات القوة وسعيه المتواصل لبسط سيطرته العسكرية على العالم، لم يعد مدركا لشكل التناقض الفاضح في المبادئ التي أعلنها لتسويق نظامه الإمبريالي  حيث بات شكل هذه الأفكار التي يدعيها مجرد ديكور كاريكاتوري نافر. لذا بحسب ما يراه جورج قرم فإن فلسفة الأنوار تواجه أزمة خطيرة، لان مصداقية هذه الفلسفة ومصداقية القيم الليبرالية والديمقراطية التي بشرت بها وانتشرت على نطاق واسع في العالم الثالث مهددتان بالانهيار الوشيك والتام!

فهل يعيد المفكرون العرب قراءة الأسطورة الخلاصة في موضوع الديمقراطية؟ سؤال يبقى مفتوحا والاجتهادات فيه لازمة.

ننهي بوجهة نظر إدوارد سعيد "يعلمنا التاريخ أن كل إمبراطورية تدعي أنها ليست كمثيلاتها، وأنها تنفرد عنها بغاياتها النبيلة في إيصال رسالة الحضارة والتنوير وإشاعة الديمقراطية، وأنها لا تستعمل القوة إلا بوصفها الخيار الأخير".

[email protected]