هشاشة العمق الاجتماعي والثقافي للحقيقة

تبدو ظاهرة الكذب الجماعي والاستسلام للاشاعات والاخبار المزيفة والقدرة على التضليل في المجتمعات العربية المعاصرة في هذه اللحظات التاريخية ذات معنى مختلف عما يدور في الكثير من المجتمعات الأخرى، وهذه الحالة ذات دلالات قد تأخذنا إلى مناطق أخرى في نقد المجتمعات العربية، ونقد التكوين الثقافي والسياسي أبعد من المناطق القاسية التي أخذنا إليها حليم بركات وهشام شرابي في نقدهما الشهير للثقافة والمجتمعات في العالم العربي قبل نحو ثلاثة عقود. المجتمعات العربية خسرت في القرن العشرين معارك عديدة ؛ وفي هذا القرن يبدو أنها دخلت موجة ظلامية تعيد من خلالها الدوران في موجات تاريخية مرت بها سابقا فسؤال الدولة الأهم هذه الأيام يدور على الهشاشة الاجتماعية والثقافية، إن النظم السياسية والكيانات لم تنتج أرضا صلبة تقف عليها المجتمعات والمؤسسات والجماعات والأفراد وصولا للدول بل الكل يقف على قشرة رقيقة ذات هشاشة مفرطة. فيما نكتشف كل يوم عمق الفقر الاجتماعي والثقافي للدولة الوطنية؛ فلأول مرة تاريخيا تندمج القواعد الاجتماعية في النقاشات حول القيم الكبرى بفضل تكنولوجيا الاتصال والإعلام المعاصرة، ولأول مرة نكتشف حجم فقر فكرة الدولة وضعف فكرة التوافق ؛ فلا يوجد تأصيل اجتماعي وثقافي يحملهما ؛ فماذا تحمل القواعد الاجتماعية التي تسبح على صفحات الشبكات الاجتماعية سوى ترديد أفكار أسيرة بالماضي وبصورة في أغلب الأحيان غير صادقة وغير تاريخية عن ماضيها او الاستسلام للمؤامرة التي يجري حبكها في ليل داهم بينما ثمة صمت مفرط عن العيوب والابتزاز والتنمر السياسي الخارجي والداخلي او النهب المنظم للثروات. كيف تساق المجتمعات لجاذبية التضليل وسط سيل جارف من تدفق المعلومات والأخبار إلى درجة يفقد الفرد فيها القدرة على التمييز ونفتقد ما كنا نسميها الحواس والقدرات الانتقائية لدى الجمهور ؛ فالجمهور ضحية للطريقة التي يستخدم بها السياسيون والناشطون والمؤثرون الوسائل الجديدة وسط تعدد وتنوع الفاعلين في هذه البيئة لحد لا يمكن حصرهم او تحديدهم علاوة على القدرة على إخفاء الهويات وتبديلها وتزييفها إلى جانب خلق هيمنة الاتجاه السائد الذي قد يصنع بسهولة يوهم الناس أنه يشكل الأغلبية. الرعوية الجديدة لها امتداد ثقافي عميق فهي تصر على الاستمرار بالعلاقات الريعية اقتصاديا سواء مع الخارج او مع مجتمعها لأن أحدا ابرز أركان استمرار علاقات التبعية الرعوية يتمثل في استمرار الاعتماد الاقتصادي على حساب بناء قدرات إنتاجية محلية، في حين تنسج على حوافها رعوية ثقافية راكدة تتحول عبر عمليات التراكم الطويلة إلى اداة قوية تحمل المشروع الرعوي في نسخته الاقتصادية والسياسية. وعلى الرغم ان الرعويات الجديدة اكثر مرونة من السابق وتلبس احيانا لبوسا ليبراليا واحيانا تبدو انها تسعى نحو الاقتصاد الاجتماعي الا انها تقدم مفهوم الولاء على مفاهيم الانتماء والصالح العام، بمعنى ان ادوات الرعاية تستمر وتتجسد اكثر في الوقت الذي تتراجع عمليا ادوات الريع بمفاهيمه الاقتصادية والاجتماعية على وقع التحولات السياسية وتقلبات الأسواق والزيادة السكانية وتفاقم أزمة المجتمعات الاستهلاكية. لا يوجد معركة اكثر عدالة من حق الناس في ان يعرفوا من هم، وإلى اين يمضون، وكيف يتخذون قراراتهم اليومية، وما علاقاتهم بالمعاني والقيم الكبرى وماذا يعني لهم الماضي والمستقبل وما هي مصادر التهديد الحقيقية التي تنتظرهم، وصولا إلى متى يكون الناس جزءا من الحل ومتى يكونون جزءا من الأزمة وتعقيد الموقف، السؤال الاكثر إثارة للقلق كيف نؤصل فكرة الحقيقة في العمق الاجتماعي والثقافي وسط هذه الهشاشة المفرطة.اضافة اعلان