"هل تتذكَّر يا ناصر؟"

البعض يعتقد أن الصديق هو الشخص الذي تحتاجه حين تريد أن تتحدث، وأنا على العكس من ذلك أعتقد أنه هو الذي تحتاجه حين تريد أن تصمت.
الكلام يمكن أن نقدمه للآخرين، زملاء.. أقارب.. جيران.. الركاب بجانبك في الطائرة، كل هؤلاء الذين لديهم استعداد فضولي دائماً لأن يستمعوا، ولو من باب التلصّص، لكنه غالباً شخص واحد الذي تتعثر به في حياتك ولديه استعداد أن يعطيك ساعات طويلة من وقته لتصمت فيها!اضافة اعلان
الصديق ليس الذي تركض إليه حين تصاب بالحزن، بل الذي يعرف جيداً متى ستصاب بالحزن، فيكون جالساً بانتظاره معك!
ربما ثمة مبالغة هنا؟ ربما! لكنني أتقصد ذلك تماماً. فمن يستحق المبالغة لأجله سوى صديق؟!
كان لي صديق أجلس معه ساعات أحياناً صامتين، ثم ننهي تلك (الثرثرة) بعبارة أو اثنتين.
نغلق الباب على أنفسنا حتى لا يقاطع صمتنا أحد؛ وحتى لا يتدخل أحدٌ فضوليٌّ بعبارة أو اثنتين تجعلنا ننسى (ما قلناه)، فنعيد صمتنا من أوَّله.
للصمت أحيانا صوت وإشارات باليدين وبلاغة ومحسّنات بديعية، ولا يخلو من أخطاء نحوية أو إملائية، أو حتى عبارة متسرّعة أو زلّة لسان. تماماً هو الصمت كالكلام. لكنه أكثر حنوّاً، ولا يزعجُ أحداً حين يعلو، ولا يفهمه الجيران والأقارب!
لذلك تصير علاقاتنا مع أصدقائنا أفضل بكثير حين يموتون!
الكلام يصلحُ لسدّ الفراغ. أو لقتل الوقت، كما يقال.
لكنَّ الصمت موهبة فريدة.
والآن في هذا العالم الذي يعلو صوت الكلام فيه على أي صوت، العالم النشيط في اختراع كل "أجهزة الحكي" والاتصال، العالم الذي يحشو بيتك بأصواتٍ ورنّاتٍ وبصخبٍ لا تحتاجه، يصير البحث عن صديق مهمة محزنة، لأن مؤهلات الناس الآن هي في قدرتهم على الحكي وليس على الإصغاء.
رغم أن الكثير مما يحدث الآن بحاجة لصمت كبير، لصمتٍ كثير، وأنا لا أجيد الصمت وحدي!
الصمت مثل الحب، يحتاجُ لاثنين.
كان لي صديق أشتاق له جداً، وحين أراه لا نجد ما نقوله!
لأنّنا اتفقنا قبل ذلك على هجاء كل شيء.
نلتقي فقط لنتأكد من موهبتنا!
وأنَّنا لسنا سعيدين بأيِّ شيء!