هل تخلّى الأغنياء عن مجتمعاتهم؟

ثمانية أشخاص من أصحاب المليارات يرأسهم بيل غيتس يمتلكون ثروة توازي ما يمتلكه 50 % من سكان الأرض، حسب تقرير منظمة أوكسفام البريطانية الذي أطلقته بالتزامن مع انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس هذا العام.اضافة اعلان
قد تكون هذه المعلومة صادمة للبعض، ولكن التطور المهم الذي أشار اليه التقرير هو زيادة في تركز الثروة ونمو الفجوة بين الأغنياء على المستوى العالمي وداخل الدولة الواحدة. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد الذين كانوا يمتلكون نصف ثروة البشر في العام 2015، (60) مليارديرا، وأصبحوا ثمانية في العام 2016 كما يشير التقرير.
بعض الدراسات الأخرى تشير الى أن 1 % يمتلكون أكثر من 90 % من الثروة العالمية.
بصرف النظر عن تفاصيل هذه الدراسات والأرقام، فالقضية الأساس والمهمة، أن ظاهرة تركّز الثروة في أيدي أعداد بسيطة من الناس هي في ازدياد سواء كان ذلك على المستوى العالمي، كما أشار التقرير، أم على مستوى الدولة الواحدة.
الظاهرة الأخرى المصاحبة لهذا التطور هي تراجع الطبقة الوسطى وانكماشها عالمياً وفي أغلب الدول، الاستثناء هو الصين؛ إذ إن نسبة الطبقة الوسطى في ارتفاع، وقد يكون الأخطر هو تراجع الطبقات الوسطى في الدول المتقدمة، مثل: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. ولعل تصاعد الحركات الشعبوية هو انعكاس أو نتيجة لهذه التطورات؛ فما يزال أغلب دول العالم المتقدمة وغيرها تعاني من نسب بطالة مرتفعة جداً بمقياس كل دولة على حدة، ما يعني أن عدد الأفراد الذين لا يجدون عملاً هو في ازدياد. وما يزال الوضع أخطر في بعض الدول دون غيرها، وإذا أخذنا الدول العربية، على سبيل المثال ، فإن معدلات البطالة لديها مرتفعة جداً، وبخاصة لدى الشباب.
هذه الظاهرة هي نتيجة مباشرة لعولمة الاقتصاد العالمي، إذ سمحت وتسمح للشركات الكبرى بالعمل على النطاق العالمي بصرف النظر عن النتائج المترتبة جراء ذلك على دول المنشأ. لا بل على العكس ، فإن الكثير من الشركات العالمية الكبرى هجرت بلدانها الأصلية، وانتقلت للعمل، حيث فرص الاستثمار والعمالة الرخيصة مخلفة آثاراً اقتصادية مدمرة على مجتمعاتها. وهذا ما حدا بدونالد ترامب إلى تهديد الشركات الكبرى التي تهجر الولايات المتحدة لأماكن أخرى بفرض ضرائب عالية عليها، وعدم السماح لها بالعمل والتجارة، إن لم تُبقِ على شركاتها، وتولد فرص عمل.
وتزامن مع هذه الظاهرة، ظهور التيارات السياسية المحافظة والليبرالية، وتراجع الأحزاب الاشتراكية واليسارية في الدول الرأسمالية المتقدمة، وتراجع قدرة النخبة السياسية على كبح جماح رأس المال، ومن ثم وضعها أمام خيارين إما الانصياع له أو التحالف معه، والضحية الرئيسية هي الطبقة الوسطى والعاملة بسبب انكماش الفرص الاستثمارية في أوطانها.
العامل الثالث الذي قد يكون أسهم بهذه التحولات هو ما اصطلح على تسميته بـ"الثورة الصناعية الرابعة" التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي التي ترتكز، بشكل متصاعد، على أعداد أقل من الناس في عملها، وتزايد الاعتماد على الآلة التي لا تحتاج للأيدي العاملة البشرية.
إن الثروة التي تنتجها المجتمعات الإنسانية حالياً غير مسبوقة، ولكنّ تركّزها بأيدٍ قليلة هو أمر غير مسبوق أيضاً والتي تتزامن مع التراجع المتسارع في أعداد الطبقة الوسطى وفرص العمل للطبقة العاملة. وتتمثل الآثار المترتبة على هذه الظاهرة في ازدياد الفقر والبطالة والعنف وغيرها من الظواهر السلبية. وسيؤدي تخلي الطبقة الغنية عن مجتمعاتها الى تقويض الأسس التي بنت عليها هذه الطبقة ثروتها.