هل تستطيع ليبيا أن تظل متماسكة؟

انفصاليون في مناطق ليبيا الشرقية يحتفلون بإعلان الحكم الذاتي لمناطقهم -  (أرشيفية)
انفصاليون في مناطق ليبيا الشرقية يحتفلون بإعلان الحكم الذاتي لمناطقهم - (أرشيفية)

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

موسى الغربي* - (ذا ناشيونال انترست) 8/4/2014


منذ الإطاحة بالقذافي، ما تزال العاصمة تستنزفها الصراعات الشرسة كل الوقت بين الإسلاميين والائتلاف المصطف مع رئيس الوزراء السابق، علي زيدان، والذين ينظر إليهم على نطاق واسع على أنهم وكلاء غربيون -وككل متكامل بكتله البرلمانية وميليشياته. وطيلة الشهور العديدة الماضية، جرت محاولات عديدة لخلع أول رئيس وزراء للبلد ينتخب ديمقراطياً، حيث ذهبت ميليشيات إلى حد اختطافه تحت تهديد السلاح والمطالبة باستقالته. وبدأت هذه المحاولات الفاشلة بإفساح المجال أمام دعوات لحل البرلمان. ومع ذلك، استطاعت المعارضة في الشهر الماضي تسريح رئيس الوزراء المحارب بسبب سوء إدارته لمسألة الحركات الانفصالية الشرقية. وبعد التصويت على الثقة في حكومته، هرب زيدان من فوره من البلد -وكان قد منع من المغادرة بسبب تحقيق متواصل عن "شوائب مالية" تتضمن تقديم دفعات مالية لإحدى المجموعات المسلحة التي حاصرت حقول النفط الليبية.اضافة اعلان
من غير الواضح من سيحل محل زيدان. فقد تم تجاوز نائب رئيس الوزراء، صادق عبد الكريم، الذي نجا مؤخراً من محاولة لاغتياله. وبدلاً من ذلك، سمى البرلمان وزير الدفاع الليبي رئيساً للوزراء بشكل مؤقت، وذلك في محاولة لجمع الجيش خلفهم في أعقاب الانقلاب العسكري الذي هدد بالقيام به في الشهر الماضي. وقد أجبر البرلمان على عقد هذا وغيره من الاستفتاءات في فندق فخم بعد أن داهم محتجون إسلاميون مبنى البرلمان، فقتلوا شخصاً وجرحوا عدة أشخاص وتسببوا في إلحاق ضرر جسيم بالمكان.
ثم تبع الهجوم الإعلان البرلماني عن نتيجة الانتخابات الخاصة بالجمعية الدستورية الجديدة في ليبيا -في اقتراع لم يمكن ملء أكثر من خمس مقاعده كنتيجة للعنف الذي حدث في مكان الاقتراع، أو بسبب مقاطعة الانتخابات، حيث أقبل على التصويت فيها أقل من 14 في المائة من الناخبين المؤهلين للإدلاء بأصواتهم. وتشير هذه النتائج إلى حس متنامٍ بالاستياء من الحكومة بين ظهراني الليبيين، والذي ربما يتجسد أفضل ما يكون بالحركات الانفصالية التي تكسب مزيداً من النفوذ في شرق وجنوب البلد.
ثورة مساءة الفهم؟
من دون الإخلال بالروايات المقللة من شأن ما يدعى "الربيع العربي"، بدأت الانتفاضة في ليبيا ككفاح من أجل انفصال الشرق -وهو كفاح ما يزال مستمراً وسط جزر ومد منذ أن أنهى القذافي النظام الفيدرالي الذي كان يطبقه الملك إدريس الأول، وقام بتوحيد برقة وفزان بشكل أكثر قوة في داخل الدولة، ضد إرادتهما في الجزء الأعظم.
بعد ذلك، امتد الكفاح المسلح إلى حملة قومية؛ حيث أصبح المتجنسون الأجانب في برقة مقتنعين أكثر بأنهم لن يتمكنوا من التمتع بالأمن أو الحكم الذاتي أبداً طالما بقي العقيد القذافي في السلطة، ولم يكن طرده من الشرق كافياً. وهكذا، وبغية ضمان استقلالهم ضغطوا باتجاه طرابلس، رافضين محاولات الوساطة من جانب الاتحاد الأفريقي.
استطاع الثوار رد قوات القذافي والتقدم نحو طرابلس بسبب تدخل الناتو الذي بدأ في آذار (مارس) من العام 2011 بإعلان منطقة حظر طيران لحماية الثوار، لكنه اضطر إلى الذهاب بسرعة أبعد بكثير وراء تفويض الأمم المتحدة، لأنه رغم الاحتجاجات الصغيرة المعادية للحكومة في طرابلس وغيرها من مناطق البلد ما وراء برقة، فإن الشعب لم ينهض الشعب على نحو جماعي للإطاحة بالنظام. وعلى نحو مشابه، وعلى النقيض من حسابات إدارة اوباما على النمط الريغاني، لم ينشق الجيش القومي الصغير نسبياً أو يتخلى عن العقيد حتى أيامه الأخيرة. وهكذا، جرى تنفيذ الثورة على نحو ضخم من جانب ثوار الشرق ورعاته الأجانب منذ البداية وحتى النهاية الأليمة.
لذلك لا يجب النظر باستغراب إلى إعلان مناطق الشرق الحكم الذاتي والانفصال عن الحكومة الانتقالية المتبرعمة في طرابلس بعد شهور قليلة من إعدام القذافي خارج الدوائر القضائية في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2011. وفي وقت الإعلان الأولي، لم تكن برقة تتوافر على السبل التي تمكنها من تحقيق طموحاتها. وسيتغير هذا الحال في وقت قريب.
صعود الانفصاليين
كان من العوامل الحاسمة في الحملة ضد القذافي هو ما تمثل في وفود أعداد ضخمة من المجاهدين، والعديد منهم تابع لتنظيم القاعدة، والذين نسبوا أنفسهم إلى شرقي ليبيا والتي كانت قد أصبحت مصدراً رئيسياً للجهاديين عبر القوميات على مدار حياة النظام. وقد زودت برقة حركة التمرد في العراق بمعظم المقاتلين الأجانب في الجزء الأكبر تماماً مثلما قرر الشرقيون المساهمة بشكل حاسم في الثمانينيات في القتال ضد الروس في أفغانستان، حيث ارتقى العديدون منهم إلى احتلال مراتب محورية في القيادة المركزية لتنظيم القاعدة على مدار العقود التالية.
مع ذلك، تعهد معظم هؤلاء المقاتلين بالولاء للمجلس الوطني المؤقت في أعقاب الثورة، وبشكل حصري تحت شرط إدراج تأويلاتهم المحافظة للشريعة الإسلامية في دستور ليبيا على أن تكون أساس القانون الليبي. ومع ذلك، وعندما دخلت الحكومة المؤقتة المدعومة من الغرب في صراع مع بعض هذه الفصائل الإسلامية، أنكرت العديد من الميليشيات بالتالي شرعية السلطات المركزية، وانضمت إلى الحركات الانفصالية الشرقية تحت القيادة الفضفاضة لقائد الثوار السابق إبراهيم جذران. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2013، سيطرت هذه الميليشيات على حقول النفط التي كان رئيس الوزراء زيدان قد عهد إليها بحمايتها نيابة عن المجلس الوطني الانتقالي الذي يسيطر راهناً على ثلاثة من أضخم الحقول النفطية الليبية، ويعمل من أجل فرض سيطرته على الحقل الرابع.
من الطبيعي أن الانفصال الشرقي غير ممكن التحقيق بالنسبة لحكومة ليبيا المؤقتة كما كان بالنسبة لنظام القذافي. وبينما يعيش أكثر من ثلثي المواطنين الليبيين في منطقتي طرابلس وفزان (الأولى في المعنظم) فإن برقة تتوافر على حوالي 80 في المائة من الاحتياطي النفطي عالي النوعية في البلد -الاحتياطات الأضخم المعروفة في أفريقيا (والخامسة من حيث الضخامة في العالم). كما أن كلف إنتاج النفط الليبي المنخفضة نسبياً وقرب البلد من أوروبا يجعلانها مصدراً جيوسياسياً حساساً. وفي المقابل، احتلت المبيعات النفطية أكثر بكثير من 70 في المائة من إجمالي الناتج القومي لليبيا ما قبل الحرب، و98 في المائة من الصادرات الليبية، و95 من عائدات الدولة. وتبعاً لذلك، ستكون برقة المستقلة التي تسيطر على معظم النفط الليبي ثرية على نحو لا يصدق -لكنها ستترك الغالبية العظمى من الليبيين (والحكومة الليبية المركزية نفسها) في فقر مدقع.
والمشكلة بالنسبة للانفصاليين هي أنهم رغم امتلاكهم هذه الموارد فسيولوجياً، فإن الحكومة في طرابلس تتوافر على الحقوق القانونية في كامل النفط الليبي في الوقت الراهن. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلنت برقة عن تأسيس شركتها النفطية الخاصة وبنكها المركزي، متحدية بذلك شبه الاحتكار الذي تمارسه مؤسسة النفط الوطنية الليبية. وبعد ذلك مباشرة وظفت شركة إعلامية كندية للمساعدة في إقناع المجتمع الدولي بالاعتراف ببرقة ومنحها السيادة على مواردها التي تقع ضمن أراضيها. وقد باشرت برقة فعلياً مباحثات مع عملاء محتملين لتصدير نفطها إليهم.
في الرد على ذلك، فرضت الحكومة المركزية حصاراً بحرياً لمنع الشرقيين من بيع النفط لخدمة محاولتهم نيل الاستقلال. لكن ناقلة نفسط استطاعت الإفلات من الحصار في وقت سابق من هذا الشهر. وتمكنت الناقلة التي تدعى "مورننغ غلوري" من تهريب أكثر من 234.000 برميل من النفط الخام إلى المياه الدولية متجهة على ما يبدو إلى كوريا الشمالية. وبينما تم إلقاء القبض على الناقلة مباشرة بواسطة فرقة الفقمات في البحرية الأميركية، فإن كسر طوق الحصار البحري يعد في حد ذاته نصراً نفسياً حاسماً بالنسبة للثوار.
بالإضافة إلى ذلك، ومستلهمين مثال برقة، أعلن الانفصاليون في منطقة فريزان الجنوبية أيضاً الحكم الذاتي في أيلول (سبتمبر) من العام 2013. وبينما لا يتوافرون على أي وصول سهل للموانئ البحرية لتهريب نفطهم، فقد أقاموا قواطع لمنع الحكومة المركزية من الاستفادة منه أيضاً. ولا تقتصر المعركة للسيطرة على هذه الموارد على القبائل المحلية والحكومة المركزية، لكنها أصبحت تشكل بوتيرة متزايدة مصدراً لصراع قبلي قبلي في الجنوب بين العرب التيبوس والطوارق -وهي قبائل تمتد انتماءاتها إلى دول الجوار مثل النيجر وتشاد والجزائر، وتشكل هوية أكثر أهمية بالنسبة للعديدين مقارنة مع قوميتهم كليبيين أو مواطنين في فيزان -وخاصة على ضوء التهميش وسوء المعاملة المستمرين اللذين يتلقاهما الليبيون السود من جانب المواطنين العرب، وخاصة في أعقاب نموهما نحو الأسوأ خلال وبعد الثورة بسبب افتقار القبائل العام للدعم ومقاومتهم للانتفاضة.
بلد على شفير الهاوية
نتيجة لهذه الأزمات جميعاً، تراجع إنتاج النفط في ليبيا إلى حوالي 12.5 في المائة من مستوياته فيما قبل الحرب، والتي كانت تبلغ 1.4 مليون برميل يوميا. وفي الحقيقة، يمكن أن تكون الصورة حتى أسوأ من ذلك على ضوء أن مستويات التصدير تكذّب تقديرات الحكومة الخاصة بالإنتاج. وقد أفضى ذلك إلى خفض الإنتاج بشكل حاد، كما أنه ثبط قدرة الدولة على فرض السيطرة الفعلية وإنشاء بنية تحتية أو توفير خدمات حساسة، مما جعل شرعيتها تتآكل أكثر في أعين الشعب ومكن الانفصاليين في هذه المناطق الحساسة.
من أجل إيقاف هذا المد، أعلن رئيس الوزراء الجديد أن العمليات لاستعادة كل حقول النفط الليبية ستبدأ خلال أيام من تسلمه مهام منصبه. وبعد ذلك بوقت قصير، بدأ الجيش ببناء قوات تمهيداً لشن هجوم في الشرق. وفي الرد على ذلك، وجه الثوار ضربة وقائية لطرد الوحدات الحكومية قبل تعزيزها -بنجاح فيما يبدو.
في محاولة للحيلولة دون مزيد من التصعيد، حاول زعيم حزب النهضة (التونسي)، راشد الغنوشي، التدخل وجلب الأحزاب الليبية سوية من أجل عقد حوار وطني، وإن شاء الله، مصالحة. ويستقي الغنوشي درساً من نجاح تونس الأخير فيما يتضح أنه تراجع عن الشفير. ويبدو أن هذا العمل سيؤتي ثماره؛ فقد أعلن جذران من توه عن التوصل إلى انفراج في المفاوضات مع طرابلس التي يجب أن تسمح للنفط بالتدفق في غضون أيام -في أول أخبار جيدة تخرج من المنطقة منذ وقت.
سوف يظل ما سيحدث لاحقاً محل تخمين للجميع، وربما لا يعدو التنبؤ كونه عملاً ساذجاً. على أن الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة هو التعلم من هذا المأزق. وهو لا يتعلق تحديداً بنهج القيادة من المقدمة أو من الخلف. يجب أن يكون الدرس هو تجنب التدخلات الساذجة في الأنظمة المائعة والمعقدة -وخاصة إذا كان المرء غير راغب أو غير قادر على التحكم في القوى البشرية والموارد خلال وقت كاف للتوصل إلى محصلة حيوية بعد ذلك. ويجب على واشنطن أخذ هذا في الاعتبار فيما هي تتابع حملتها سيئة المصير ضد سورية.


*زميل بحث لدى المبادرة الجنوبية الغربية لدراسة حالات الصراع في الشرق الأوسط.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان:
Can Libya Stay Together?z