هل تستعيد "أوروبا العجوز" شبابها!


بعد الحرب العالمية الثانية وتشكيل حلف "الناتو" كان يُنظر للعلاقة الأوروبية الأميركية بأنها تشكل الكتلة الغربية "الديمقراطية" التي تواجه الكتلة الشرقية "الشيوعية". واتسمت العلاقة بالتكامل سياسياً واقتصادياً مع بروز اختلافات حيال ملفات هنا وهناك. ولكن كانت الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى بالعلاقة: سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وأصبحت أوروبا مع مرور الوقت متقبلة للجلوس بالمقعد الخلفي: سياسياً وعسكرياً، وركزت على البُعد الاقتصادي، وبخاصة بعد نشوء الاتحاد الأوروبي باعتباره كتلة اقتصادية كبيرة.اضافة اعلان
ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بدأت العلاقة تتغير تدريجياً، وبدأت أوروبا عاجزة عن اختيار مسار مستقل عن واشنطن في العديد من  القضايا الدولية. ولم تكن الولايات المتحدة مرتاحة للقوة الأوروبية الاقتصادية، وطورت علاقات قوية سياسياً وعسكرياً مع بريطانيا لحد وصف وزير الدفاع الأميركي في عهد جورج بوش الابن أوروبا بـ"القارة العجوز" في مؤشر على عدم الرضى عن السياسة الأوروبية.
العام الماضي كان مفصلياً لأوروبا، وذلك بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي بدأ يلقي بظلاله على قدرة استمرار أوروبا موحدة، وبعد ذلك جاء انتخاب دونالد ترامب الذي تبنى سياسة شعبوية قومية شكلت ضربة للقيم الأوروبية القائمة على الليبرالية السياسية. لذلك كانت أوروبا تعيش بحالة من القلق والخوف من عدوى الصعود اليميني المتطرف بأوروبا والذي كان من الممكن أن يؤدي الى انهيار الاتحاد الأوروبي والنموذج الليبرالي الغربي إذا جاز التعبير.
المعركة الفاصلة كانت الانتخابات الرئاسية الفرنسية بعد صعود اليمين المتطرف بقيادة لوبين التي كانت تدعو صراحة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وفشل اليمين واليسار للوصول للمرحلة الثانية من الانتخابات. ولم يكن ماكرون خياراً فرنسياً فحسب، وإنما كان خياراً أوروبياً أيضاً، وجاء انتخابه ليعيد الأمل لأوروبا الموحدة وليس لفرنسا.
ترامب في حملته الانتخابية شن هجوماً على حلف "الناتو" واتهم العديد من الدول الأوروبية بعدم المساهمة الكافية في تمويل حلف "الناتو". ولم ينتهِ هجوم ترامب بعد انتخابه رئيساً لا بل إنه تعامل بفوقية مع رئيسة وزراء ألمانيا أنغيلا ميركل عندما التقاها في البيت الأبيض. نبرة الابتعاد عن أوروبا وألمانيا خاصة تصاعدت بعد لقاء ترامب قادة حلف "الناتو" في بروكسل ثم في لقاء الدول الصناعية الكبرى؛ إذ بدا الخلاف أكثر وضوحاً، وبخاصة حول المناخ وغيره من الملفات الدولية الإقليمية. كذلك لم يتحل ترامب في زيارته لأوروبا بالكياسة الدبلوماسية؛ فقد ظهر بأكثر من موقف مزاحماً بعض الرؤساء ليكون دائماً بالمقدمة.
تصاعدت هذه الخلافات بين ألمانيا وأميركا في الأيام الماضية بعد أن صرحت أنغيلا ميركل أن على بلادها أن  تتبنى سياسة أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، تلا ذلك سيل من الانتقادات التي وجهها سياسيون ألمان لسياسة الولايات المتحدة نحو أوروبا عموماً وألمانياً تحديداً.
لقد جدد انتخاب ماكرون الأمل بإنعاش فكرة الاتحاد الأوروبي والقيم الليبرالية الغربية والذي يتمتع بعلاقة ممتازة مع المستشارة الألمانية ميركل، ومن المتوقع أن يقوما معاً بقيادة الاتحاد الأوروبي في المرحلة المقبلة باتجاه سياسة أوروبية أكثر استقلالية لمواجهة تداعيات موقف ترامب من أوروبا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ما يزال من المبكر الاستنتاج بما ستؤول إليه نبرة الخلاف المتصاعد بين ألمانيا وفرنسا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، ولكن من المؤكد أن ألمانيا وفرنسا تقودان حراكاً أوروبياً لإعادة التموضع للإفلات من التبعية السياسية لترامب التي تقودهما للاتجاه شرقاً باتجاه روسيا أولاً التي بدأت تؤكد نفسها بوصفها قوة سياسية وعسكرية رئيسية على المستوى العالمي، والعملاق الاقتصادي الصيني، إضافة للقوة المتصاعدة اقتصادياً للهند.
إضافة إلى أنه ما يزال من المبكر الاستنتاج بما ستؤول اليه نبرة الخلاف المتصاعد بين الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن من المؤكد أن أوروبا، ممثلة بألمانيا وفرنسا، قد بدأت تعيد الحسابات في علاقاتها الخارجية التي كانت تتسم بالسابق بالتبعية للسياسة الخارجية الأميركية والتي من الواضح أنها لم تعد تخدم المصالح الأوروبية، وبخاصة الاقتصادية، وليس من المستبعد أن نرى "انتفاضة" أوروبية للإفلات من التبعية السياسية لأميركا ترامب، وأن تقودها للاتجاه شرقاً نحو روسيا وإيران والصين والهند. هذه "الانتفاضة" إن حصلت فإنها كفيلة بأن تعيد الحيوية والشباب لـ"القارة العجوز".