"هل تكسب الإنسانية معركتها؟"

«لا بد إذًا من الاستثمار في الأمن الحقيقي، وهو الأمن الإنساني الذي لا يكتسب إلا بكسب القلوب والعقول. فما نزال –أكثر من أي وقت مضى- بحاجة ماسة إلى أخلاقيات التضامن الإنساني التي تعكس القيم المتأصلة في الوجدان الإنساني الجمعي: احترام الحياة، والاعتراف بالكرامة الإنسانية، والإحساس بالمسؤولية تجاه الأجيال القادمة. كذلك يجب الانتقال من القول إلى الفعل، ومن التنظير إلى التطبيق. وفي هذا الصدد، لعل أهم هدف استراتيجي لنا هو صوغ مسودة قانون عالمي للسلم، يساهم في بناء عالمٍ أكثر تراحمًا، وأشد تضامنًا وأعمق فهمًا».اضافة اعلان
هذا ما أشار إليه سمو الأمير الحسن بن طلال في معرض تقديمه لتقرير الهيئة المستقلة الخاصة بالقضايا الإنسانية في العالم والذي جاء بعنوان «هل تكسب الإنسانية معركتها؟»، والذي مر ما يقارب من العشرين عامًا على اصداره، وبالرغم من مرور كل ذلك الوقت ما يزال السؤال المطروح عنوانًا للتقرير محلًا للنقاش والتساؤل والتفكير العميق، وما تزال اشكاليات الأمن الإنساني وتحديات الإنسانية قائمة، لا بل اتخذت أشكالًا وصورًا أشد وطأةً.
لعل ما يميز تقرير الهيئة المستقلة الخاصة بالقضايا الإنسانية هذا، هو النظرة الإنسانية العميقة للمعطيات كافةً السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية في آن واحد؛ وهذا ما عبر عنه التقرير حين أشار إلى عدة مسائل محورية، أبرزها:
أولًا: أن قيم الإنسانية يتوجب أن تشكل توجهًا أساسيًا نحو مصالح الناس ورفاههم، وهي قيمٌ تستدعي وضع كل ما من شأنه الحط من الرفاه الإنساني موضع التساؤل مهما كان تأثيره على النمو الاقتصادي والقوة السياسية أو على استقرار نظام من الأنظمة؛ فالمفاهيم التجريدية كالنمو والاستقرار ليست غايات بحد ذاتها، بل هي أمور تكتسب قيمتها إذا ما أثمرت مزيدًا من الرفاه للبشر، مع التأكيد على أن إنسانيتنا المشتركة لا تعني انكار الاهتمامات أو المصالح الخاصة أو التقليل من شأنها، بل تعني الاعتراف بأن الحقيقة ليس لها تعريف واحد يقبله الجميع دون شروط ؛ لذا يتوجب البدء من نقطة الإنسانية المشتركة، مثلما يمكننا التعايش مع المفاهيم المتعددة للحقيقة.
ثانيًا: يشكل التضامن مع الأجيال القادمة أحد الأبعاد الأساسية لقيمة الإنسانية، فالمسؤولية تقتضي في هذا الاطار أن لا ترث الأجيال القادمة كوكبًا اضمحلت موارده أو دمرت بيئته بشكل لا اصلاح بعده، وحيث إن العالم لا يستطيع السيطرة على نتائج أفعاله في الكثير من الأحيان، فإن ذلك يتطلب عددا من الموجبات الأخلاقية أبرزها دراسة كل النتائج المترتبة على عمل من الاعمال بعيدا عن الفردية او التفكير ذي البعد الواحد الذي يركز على المكتسبات المادية.
ثالثًا: إن قيم الإنسانية يتوجب ان تشكل اتجاهًا ومنهج حياة للأفراد، وأن تكون اطارًا لصانعي السياسات في آن واحد، وتتجاوز هذه القيم حدود القانون الدولي والإنساني القائم، حيث انها تربط الأخلاق بالأفعال على المستويات كافة، فالعصر الحالي يحتاج إلى منظور أخلاقي أشمل وأبعد من المنظور القانوني، لأننا وثيقو الصلة بعضنا ببعض، الأمر الذي يتطلب اصلاحًا شاملًا للاتجاهات الفردية والجماعية والمؤسسية نحو قيم الإنسانية وفهمًا أعمق لها.
هذه بعض الإضاءات التي سلط التقرير الضوء عليها في اطار تحليل فلسفي عميق للإنسانية ومتطلبات الحفاظ عليها واعادة موضعتها لتكون محورًا ومرتكزًا تبنى عليه السياسات والقرارات التي تتخذ على مختلف المستويات الوطنية والعالمية.
في الواقع معطيات كثيرة واحداث متلاحقة، تجعل من سؤال «هل تكسب الإنسانية معركتها؟»، سؤالًا قائمًا ومشروعًا، وقد يحتاج سنوات أخرى عديدة للإجابة عنه. وتبقى الحقيقة الثابتة بأن الاعلانات والمواثيق والاتفاقيات الدولية وحتى التشريعات على المستوى الوطني، لن تؤتي أكلها في المجال الانساني ما لم يقرر الأفراد وتصمم الأمم على جعل هذا العالم يتمتع بقدر أكبر من الإنسانية. فالإنسانية وكما أشار التقرير ذاته، هي الجسر الذي يصل بين الأخلاق وحقوق الإنسان والقانون، وهذه المتطلبات هي التي تجعل العالم مكانًا آمنا ويتمتع بالسلام للجيل الحاضر والأجيال القادمة.