هل سؤال الخيارات الاقتصادية-الاجتماعية مطروح أردنيا؟

بعد الانكشاف السياسي والاجتماعي الذي أبرزته الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تشهدها البلاد حاليا، وبعد أن وصلت هذه الأزمة حد تهديد الأمن الاجتماعي، يبرز السؤال القديم مجددا: هل يملك المسؤولون الجرأة لطرح الخيارات الاقتصادية–الاجتماعية للدولة على الطاولة، كما كانوا جريئين مع مواطنيهم حينما حملوهم فاتورة سياسات خاطئة ومشوهة؛ هل يملك هؤلاء المسؤولون ذات الجرأة مع ذاتهم ومع مؤسسات المجتمع الدولي، أم أن معضلة الاقتصادي-السياسي التقليدية ستبقى هي المهيمنة؟اضافة اعلان
منذ ولادة النظام السياسي الأردني قبل تسعة عقود، اتخذ منهجا اقتصاديا ليبراليا محافظا؛ أي أبقى على دور ما للدولة في السوق. حدث ذلك وسط نظم سياسية قليلة في المنطقة غير متحررة سياسيا، لكنها في الأغلب اعتنقت الليبرالية الاقتصادية. ورغم التشوهات المبكرة، وأهمها إبقاء الاقتصاد يتنفس بالمساعدات على حساب بناء قاعدة إنتاجية اجتماعية، فإن هذه الصيغة حافظت على نفسها وعلى التماسك الوظائفي بين الدولة والمجتمع، وأبقت على تشوهاتها، بعد تغير معظم النظم الاقتصادية العربية المحيطة إلى سيطرة الدولة شبه المطلقة، إلى أن وصلت (الصيغة) إلى النقطة الحرجة في نهاية الثمانينيات، والتي كانت تعني عمليا أننا لا يمكن أن نستمر طويلا بهذا المنهج.
كانت الوصفة الجاهزة ليست بالهجوم المعاكس والمراجعة الشاملة، بل بالهجوم بذات الأسلحة التقليدية نحو المزيد من الاندماج في الاقتصاد الدولي، والمزيد من الذوبان لاقتصاد صغير. وإذا كانت الصيغة التأسيسية قد صمدت سبعين عاما، فإن الصيغة التالية، كما نشاهد اليوم، لم تصمد أكثر من عشرين عاما.
هناك مراجعة واسعة للقيم والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي برزت منذ التسعينيات من القرن الماضي، وبدأتها مدرسة شيكاغو الشهيرة قبل ذلك بسنوات. وهي مراجعات لا تقتصر على المستوى الأكاديمي والنظري، بل تطاول أعتى المؤسسات الرأسمالية في العالم، وفي مقدمتها البنك الدولي. ويتمثل ذلك في سياسات الرعاية الاجتماعية، وحدود تدخل الدولة وأدوارها، وتنظيم الأسواق الحرة، وسياسات الضرائب وإعادة توزيع الثروة، والسياسات الحمائية، وفرضية القيمة في تحديد الأسعار، والمشاريع الصغيرة ذات المضمون الاجتماعي مقابل المشاريع العملاقة.
الآن، تأكد العالم، وبالتحديد في الأسواق الصغيرة، من مدى الحاجة الى صيغة تنظيمية تحمل روح المسؤولية والتزاماتها القانونية في مسار الأسواق الليبرالية، وإلا ستكون النتيجة المزيد من الحراك الاجتماعي السلبي، والمزيد من الإفقار وسوء توزيع الثروات، والمزيد من الاحتكارات؛ وبالتالي هيمنة مطلقة من سوق مشوهة على الدولة والمجتمع معا.
الأنموذج المستقل في الاندماج الآمن في السوق الليبرالية العالمية هو الأنموذج الذي يبدع أفكاره وسياساته حسب حاجاته وقدراته، وفق منظوري الاقتصاد السياسي والسياسات الاجتماعية. وبهذا تنطلق أدوار الدولة في ثلاثية الأمن والرعاية الاجتماعية والتنظيم، ولا تكتفي بدور المتفرج ووظيفة حماية السوق وحدها. لنأخذ، على سبيل المثال، سياسة الدعم ببعدها الاجتماعي، والتي آن الوقت أن تقوم على أساس فهم جديد يرتبط بدور الدولة كضامن للأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي. فسياسة الدعم هي في المحصلة ضمانة سياسية واجتماعية، ولا توجد دولة في العالم لا تقدم الدعم. وسياسة الدعم يجب أن لا تعتمد على فكرة أن الدولة لا يجب أن تقوم بدور الجابي والتاجر، بقدر ما تقوم بدور الضامن للأمن الاجتماعي وللاستقرار السياسي. ويخدم الدعم في النهاية أهدافا سياسية اقتصادية واجتماعية. البقرة في أوروبا تحظى بدعم يومي قدره 2.5 دولار، وفي اليابان تحظى بـ7.5 دولار يومياً، أما الولايات المتحدة ذات الاقتصاد الحر فتدعم مزارعيها. وفي أوروبا يشكل الدعم الزراعي 30 % من قيمة الإنتاج الزراعي النهائي.
ان التقاليد الليبرالية التي أنشئ عليها المجتمع الأردني، وتمأسست من خلالها الدولة، تتعرض في هذا الوقت لاهتزازات عميقة، لا يدري أحد الى أين تمضي في ضوء الاقتصاد السياسي المحلي وارتباطاته الإقليمية، والعين على مسارات التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي التي ستدخل حتما في هذا السياق. فالمراجعات السياسية وحدها ستبقى ناقصة ومحدودة الأثر إذا لم تصاحبها مراجعات للخيارات الاقتصادية من منظور السياسات الاجتماعية والاقتصاد السياسي المحلي وأبعاده الإقليمية والدولية، ومن منظور الاستقرار والأمن الاجتماعي.

[email protected]