هل فشلت "الاستراتيجية الأميركية" حقاً..؟

يقول معظم المعلقين إن الاستراتيجية الأميركية العالمية تخفق في العقود الأخيرة. وهم يستندون فيما يبدو إلى فكرة أن الولايات المتحدة أقامت سياستها الخارجية فعلاً على أساس إصلاح العالم وتعميم الازدهار والديمقراطية، وفشلت في ذلك. أو أنها تخسر مالياً وأخلاقياً وبشرياً بسبب مغامراتها وتدخلاتها في شؤون الآخرين من دون أن تحقق شيئاً. لكنني صادفت في مكان ما قبل فترة قراءة أخرى، نسيت اسم صاحبها الآن، تعاودني فكرتها المنطوية على منطق معقول: ربما أن الاستراتيجية الأميركية لا تخفق، وإنما تحقق نجاحاً أكثر من المطلوب على الأغلب. وهذه بعض الأسباب.اضافة اعلان
في منطقة الشرق الأوسط وجوارها، مثلاً، يقال إن أميركا أخفقت في العراق، فلم يحوله غزوها إلى واحة الحرية والديمقراطية التي وعدت بها العراقيين؛ وأخفقت في سورية، حيث لم تعمل كما يجب لصيانة البلد وحسم الصراع لصالح الشعب السوري وازدهاره؛ وأخفقت في مصر، فلم تنجح في مساعدة قدوم نظام جديد مختلف يحقق طموحات المصريين العاديين؛ وأخفقت في ليبيا، حيث تدخلت في التدمير فحسب، تاركة البلد نهباً للفوضى والاحتراب؛ وأخفقت في فلسطين، حيث فشلت في تحقيق السلام وحل المشكلة المزمنة هناك؛ وأخفقت في إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير الأكثر استقراراً وعدالة؛ وأخفقت في تحييد إيران وتأمين حلفائها السنيين؛ وأخفقت في أفغانستان، فحولتها إلى دولة فاشلة فقط، وهكذا.
لكنه يحق لنا، نحن الذين نعرف تماماً أين تقف أميركا من أحلامنا، أن نتساءل: هل أرادت أميركا، أو كان في مصلحتها في أي يوم أن تتيح لنا الحرية والأمن والازدهار والديمقراطية؟ ألا تعمل هذه الإمبراطورية المتسلطة كل شيء لتأمين استيلائها على نفط منطقتنا وثرواتها، وإدامة الأنظمة الرعوية التي تستحوذ على العوائد وتترك بلدانها باقتصاد ميت؟ أليست هي التي تشجع وتدعم الأنظمة العسكرية والاستبدادية في المنطقة؟ أليست هي التي تدرب أجهزة الأمن وتعلم جلاوزتها كيف يعذبون مواطنيهم، وتزودهم بالبنادق والهراوات وقنابل الغاز والقيود؟ أليست هي حبل الحياة لكيان الاحتلال الاستيطاني العدواني في فلسطين، المنغرس كشوكة في خاصرة العرب، على حساب شعب كامل وضد مشاعر كل شعوب المنطقة؟
لطالما كان تخلف هذه المنطقة وتوتيرها وقمع طاقات شعوبها وإحباطهم غايات أميركية واضحة. لذلك، لم تفشل أميركا حين أفضى غزوها للعراق إلى إحراقه وتدميره والتمهيد لتقسيمه. لم تفشل حين سمحت بخراب سورية وذبحها وهيأت لإمكانية انقسامها أيضاً. لم تفشل حين أثارت الصراعات الطائفية والعرقية في المنطقة، وشغلتها باشتباكاتها الخاصة. لم تفشل حين عمقت الانفصال بين إيران الشيعية المسلمة والعرب السنيين المسلمين. لم تفشل حين أتاحت لأنظمة التواطؤ علناً مع العدو الصهيوني ضد شعب عربي شقيق وضد رغبات شعوبها. لم تفشل حين صنعت بؤرة الفوضى الأفغانية على حدود روسيا ووترت كامل تلك المنطقة. لم تفشل حين أفضت سياساتها وإفقارها للعرب وضمان تخلفهم واستبداد أنظمتهم وتيئيسهم إلى خلق التطرف الديني الذي أصبح يستهلكهم مثلما يستهلك الزرع المحترق نفسه. ولم تفشل إذا بقيت أفريقيا متعبة وغاصّة بالصراعات والمذابح، وعاجزة عن الانتباه إلى التنمية وتلمس الضوء.
لن تنجح أميركا -بمعنى مجمعها الصناعي العسكري، وشركاتها النفطية العملاقة، ورأسمالييها النهابين الحاكمين من وراء الستار- إذا انطفأت بؤر التوتر في العالم وأصبح يزدهر وحده وعلى هواه. لن تنجح أميركا إذا سمح السلام الناشئ بتشكل تكتلات اقتصادية وتوافقات سياسية وأحلاف عسكرية، في العالم العربي أو غيره، والتي لن تعود في حاجة إلى السلاح الأميركي أو الحماية الأميركية، وربما ستنافس باقتصاد منتج وتستثمر بحرية في مواطنيها. ولن تنجح إذا اختفت الأسباب التي تبقيها طويلة اليد ومتمايزة بالغطرسة، وأصبحت بلا وظيفة، مثل عريف الصف المتبطل بين طلبة هادئين.
للأسف، ربما تكون أميركا قد نجحت تماماً في تطبيق قسمتنا من "الاستراتيجية". لقد أعادتنا عملياً ألف عام إلى الوراء، وساهمت -كما كان حالها دائماً- في تعميق مصائبنا وتدمير بلداننا وإجهاض أحلامنا. ولا أظن عاقلاً يعتقد أنها أرادت لنا شيئاً سوى ذلك، بالضبط!