هل لدينا أزمة هوية أم هويات؟

ثمّة اختزال مخلٌّ يقع فيه سياسيون وإعلاميون عندما يقصرون سؤال الهوية، أو بعبارةٍ أدق، أزمتها، في العلاقة بين المكونين الرئيسين للمجتمع، الأردني والفلسطيني. إذ أنّ أية رؤية استراتيجية بعيدة المدى أكثر عمقاً مما يدور على السطح ستكشف أنّ البعد (الأردني- الفلسطيني) ليس سوى عَرَض لأزمة بنيوية أخطر وأشمل.

ذلك أنّ أزمة الهوية تتجاوز ذلك المربع (على أهميته)، وتتغلغل في تفاصيل عديدة ودقيقة في الحياة العامة، سواء في التوترات الاجتماعية أو قانون الانتخاب أو العلاقة بين الدولة والفرد والمجتمع.

تؤكّد على شمولية الأزمة وخطورتها الدراسة التي أعدّها المركز الأردني للبحوث الاجتماعية (بإشراف أستاذ الاجتماع د.موسى شتيوي)، في العام الماضي، وخرجت بنتائج خطيرة (دفعت بالمسؤولين حينها إلى عدم إعلان نتائجها، قبل أن تتسرب إلى الإعلام لاحقاً).

تلك الدراسة كشفت عن تفكك الهوية الوطنية، لدى جيل الشباب، لصالح الانتماءات الإقليمية، والرجوع إلى الولاءات الاجتماعية والأطر التقليدية، على حساب الاعتبارات السياسية والوطنية الكبرى، ما أدى إلى انتشار ظاهرة "الهويات الفرعية" وظاهرة فقدان التماس مع الجوامع الوطنية والدينية بمعانيها السليمة، ومفهوم خاطئ متخلف عن العشائرية.

واقع الشباب اليوم بمثابة "باروميتر" للحالة الاجتماعية والسياسية بأسرها، ومؤذن بخطر يحيق بمستقبل الوطن وسلامته الأهلية، ويكشف أنّ لدينا أزمة هويات متعددة متشعبة، وليست أزمة هوية واحدة.

بلا شك المسؤول عن هذا الواقع، بالدرجة الرئيسة، هي سياسات الدولة السياسية والاقتصادية معاً.

سياسياً، من خلال الجمود السياسي و"تأميم" الحياة السياسية ووضعها في عهدة المنظور الأمني، ما خلق فراغاً ثقافياً وسياسياً لدى الشباب، عزّز من بروز هويات اجتماعية وفرعية عديدة.

تلك الهويات والنزعات تفاقمت وتمّ دعمها، من قبل الجهات الرسمية، ظنّاً أنّها كفيلة بمواجهة التيارات السياسية، وتحديداً الإسلاميين، لاعتبارات أمنية، لتتحول لاحقاً إلى مصدر تهديد للأمن الوطني، كمن أراد أن يقتل ذبابةً فسمّم هواء المنزل كاملاً!

اقتصادياً، تجاهلت السياسات الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة البعد الاجتماعي والثقافي، قبل أن يتنبه لذلك "مطبخ القرار" مؤخّراً، ويعيد النظر في السياسات التي فككت الطبقة الوسطى في القطاع العام وأضعفتها، ويلجأ إلى تعديلها، لكن في وقت متأخر، بعد أن حدث جزء كبير من التدمير.

هذه الاختلالات الاقتصادية مع الفراغ السياسي، وتجاهل الدولة لأهمية السياسات الثقافية والاجتماعية التي ترفد تحديث الثقافة الوطنية الجامعة، كل ذلك دعّم الردّة الثقافية الحاصلة اليوم وخلق تشوهات اجتماعية- ثقافية متعانقة مع الأزمة السياسية.

اضافة اعلان

الحل يبدأ بإدراك أهمية بناء قراءة عميقة لأزمة الهويات تتجاوز الجدال واللغو السطحي، نحو تأسيس "فلسفة وطنية" متكاملة تغلّف رؤيتنا لتاريخنا وواقعنا وقيمنا ومستقبلنا، وتؤسس لمعنى جديد للعقد الاجتماعي، أساسه رابط المواطنة وسيادة القانون والمساواة في الفرص كمعيار أساسي للانتماء الوطني، بدلاً من المعايير الوهمية المضلِّلة التي جرّت علينا مؤخراً الويلات! 

[email protected]