هل نحن شيوعيون ؟

  لم تكن المملكة العربية السعودية أو الأردن يوما شيوعيتين، أو حتى اشتراكيتين باقتصاد شمولي موجه، ولعل ذلك أحد أسباب الرخاء النسبي الذي تتمتعان به، بالمقارنة مع غيرهما من الدول العربية. وقبل أن يحتج سعودي أو أردني يعاني من الغلاء وظروف المعيشة الصعبة، اذكّر، مرة أخرى، أنني قلت "النسبي".

اضافة اعلان

ولكن ما بال أقوام يتبنون مواقف مناهضة لاقتصاد السوق، وناقمة على قطاع الأعمال، الذي يسمى خطأ "القطاع الخاص"، وهو تصنيف وارد من الخطاب اليساري العتيق، بمعنى انه مواجه للقطاع العام، الذي هو قطاع الاقتصاد المملوك من قبل الدولة .

كنت في البحر الميت هذا الأسبوع، للمشاركة في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي الشهير، الذي يختار الأردن لعقد دورته الصيفية كل عام، حيث يجتمع المئات من كبار رجال السياسة والمال، يقضون ما بين عمان والبحر الميت عدة أيام، يتعرفون خلالها اكثر على الأردن، ورجال الدولة والأعمال، والفرص الاستثمارية فيها، الأمر الذي انعكس إيجابا على الاقتصاد الأردني وفرص التوظيف فيه. باختصار، إن عقد المنتدى في دولة نامية كالأردن كان "ضربة معلم" للملك الأردني الشاب عبد الله، وبالتالي اصبح "الأشقاء" يحسدون الأردن عليه، ويتنافسون لنقله إلى بلادهم. والإشاعة القوية هذا العام أن المصريين نجحوا، أخيرا، في إقناع رئيس المنتدى ومؤسسه، كلاوس شواب، بعقده العام المقبل في شرم الشيخ. ومن قبلهم، استمات القطريون لنقله الى الدوحة!

   بالرغم من كل فوائد عقد المنتدى في الأردن، فإن هناك قوى أردنية معارضة له، وتصر على أن الاقتصاد الأردني لم يستفد منه شيئا، وانه ليس اكثر من "هيمنة أميركية على المنطقة العربية وإفقار شعوبها". والغريب أن هذه القوى ليست طلابية مناهضة للعولمة، كما هو الأمر في الدول الغربية، وإنما جمعيات مهنية، كان يفترض أن تكون اقرب إلى احتياجات المواطن والسوق، لكن يبدو أن ما من أحد يجيد وضع إصبعه في عينه مثلنا نحن العرب! فيقول مثلا نقيب المحامين الأردنيين، المحامي صالح العرموطي، إن العولمة والخصخصة "استعمار جديد يسعى إلى التحكم بالقرار السياسي للبلاد العربية والإسلامية والدول الفقيرة، لخدمة مصالح الدول الكبيرة، والشركات الغربية والأميركية والصهيونية"! كلام يبدو غريبا أن يصدر عن محام يفترض فيه أن مطلع افضل على التحسن الذي أحدثه الانفتاح والإصلاح الاقتصادي في السوق الأردنية. واراهن أن مكتب السيد العرموطي استفاد اقتصاديا من تمثيل وتسجيل عشرات الشركات والمصانع الجديدة التي تدخل هذه السوق كل أسبوع.

هل هذه بقايا أفكار يسارية تسربت إلى دولة كالأردن من ثقافة اشتراكية اكتسحت المنطقة في الستينيات؟ يكفي أصحابها من الأردنيين أن ينظروا شمالا ليروا ما فعلت شعارات مناهضة "الإمبريالية والاستعمار الجديد الممثل في الشركات العابرة للقارات"، في بلد غني بالثروات الطبيعية والبشرية. ولينظروا حولهم ليروا كيف حول اقتصاد السوق والانفتاح بلدا قليل السكان، فقير في ثرواته الطبيعية، إلى قوة اقتصادية نامية. إن الأردن اليوم يمتد بأبنائه المتعلمين، وشركاته الناجحة، من عمان إلى دبي وجدة، ولا يلغي هذا النجاح صعوبات الحياة التي يواجهها غالب الأردنيين، فالمهم هو أن هناك ثمة فرصة، و"الفرص" هي بوابة الأمل الكبير التي تصنع الاقتصاديات القوية.

   في المملكة العربية السعودية لدينا أيضا قوى غريبة مناهضة للعولمة واقتصاد السوق وقطاع الأعمال، هذا ونحن نستعد للاحتفال بدخول منظمة التجارة العالمية في نهاية العام الجاري، والذي يعني إعلان إيماننا، الواضح والصريح، بالعولمة وحرية التجارة. وفيما الدولة تشعر باطمئنان قدرتنا على دخول هذا العالم دون أن تتأثر قيمنا ومعتقداتنا، تتسلل أفكار قلقة متوجسة، تحذر وتتخوف من القادم الجديد، اختار من بينها "مانشيتا" تصدر الصفحة الأولى من ملحق الرسالة، الصادر عن صحيفة المدينة الغراء، يقول: "شبابنا بين سندان العولمة ومطرقة التطرف". وهكذا، تساوت في السوء العولمة مع التطرف.

وبينما صحيفة المدينة معروفة بمحافظتها الشديدة وتقليديتها، فإن أفكارا معادية للسوق تجدها في صحيفة تجديدية منفتحة هي الشرق الأوسط اللندنية، التي رسم فنان الكاريكاتير المحلي فيها رسما لرجل ضخم شرس سماه القطاع الخاص وهو يعصر المواطن الكادح المسكين عصرا. كاريكاتير مناسب لروزاليوسف في منتصف الستينيات، وليس للشرق الأوسط التي يرأس تحريرها الشاب طارق الحميد، ولكنها بقايا ثقافة يسارية، يجب أن نتخلص منها كي تتكامل منظومة التجديد والإصلاح.

ولا أنسى صحيفة الوطن، التي تشرفت برئاسة تحريرها قبل عامين، عندما فوجئت خلال أيامي القليلة فيها برأي الصحيفة يؤيد قرارا صدر عن وزارة الداخلية يمنع سحب السيارات المقسطة، التي يتخلف "المتعاقدون على شرائها"، ولم اقل أصحابها، عن سداد الأقساط المستحقة عليهم من قبل مالك السيارة الحقيقي، وهم وكالات السيارات. فأتهم من صاغ رأي الوطن يومها بعدم مراعاة خصوصية "ملاك" السيارات، الذين قد يتركون أغراضا شخصية فيها تصادر مع السيارة. فكان رأيي يومها أن مراعاة الاقتصاد الوطني ادعى واهم، وانه كان حريا بنا انتقاد القرار لأنه يشجع على عدم الالتزام بالعقود، والتي بدون الالتزام بها لن تقوم قائمة لاقتصاد وطني قوي.

من الواضح أن هناك مشكلة اتصال بين الدول ذات المشاريع الإصلاحية وطبقات عدة في المجتمع، تعتقد أنها غير مستفيدة من الإصلاح والانفتاح الاقتصادي. ويجد أصحاب الطروحات المناهضة لقطاع الأعمال فرصتهم في حالة ضعف الاتصال هذه، لنشر أفكارهم المشوشة حول عملية الإصلاح. وبالتالي، فلابد من ردم هذه الفجوات.

وبينما أثمرت العلاقة المتميزة والمتطورة بين الحكومات العربية وقطاع الأعمال عن شراكة تنموية، استفاد منها كامل المجتمع، إلا أن هذه العلاقة أفرزت أيضا قدرا من الفساد، ومن الضروري تحقيق قدر من الشفافية والمحاسبة، لأنها الكفيلة بمنعه ووقف انتشاره. إننا بحاجة إلى ثقافة جديدة تدافع عن دور قطاع الأعمال، وتبرز دوره في صنع المستقبل العربي الجديد، تقصي بقايا ثقافة اليسار التي تسللت حتى إلى اعرق الاقتصادات العربية الرأسمالية.