هل هي نهايـة الاتصال الجماهيري؟

   بينما تنشغل في هذه الأثناء أوساط المثقفين والعقائديين في جهات العالم بقراءة الواقع الذي أفرزه الالتقاء التاريخي بين التكنولوجيا والإعلام وما خلفه من مقولات كبرى حول دور الإعلام في اندماج العالم وفي خلق الوعاء الثقافي والحضاري المشترك بين الشعوب, بدأت تظهر أصوات جديدة  في المراكز الحية لانتاج الإعلام والمحتكرة له أحياناً، تتحدث عن انتكاسة ثورة الاتصال وعن الدور الذي لم ينتبه إليه الكثيرون وهم يخططون لاسس قرية الإعلام العالمية، وهو الدور الذي بدأت أخيراً تمارسه تكنولوجيا الاتصال في تفتيت الجماهير وتشتيت المتلقي وفرض المزيد من الفردية والعزلة، وإيجاد نماذج لآحاد الناس الذين يغايرون في طبيعة حياتهم الكثير من أسس وأنماط الاجتماع البشري الفطري، لقد توقف الكثير من علماء الاتصال وعلم الاجتماع الاتصالي عند حدود المشهد الاتصالي المعاصر الذي حددته مظاهر ثورة الاتصال في العقد الأخير من القرن الماضي، وأشاروا بشدة إلى ضرورة مراجعة أصولية لنظرية (مارشال مكلوهان) التي صاغها في نهاية عقد ستينيات القرن الماضي ويشير من خلالها إلى وحدة العالم في قرية عالمية تحققها وسائل الإعلام، حيث أفرغت حالة السباق الهائل في تكنولوجيا الاتصال هذه النظرية من الكثير من مظاهرها التاريخية، فظهر انه من المؤكد أن خبرات القراءة والاستماع والمشاهدة أصبحت عبارة عن خبرات معزولة, بدلا من كونها خبرات مشتركة حسب اعتقاد (مكلوهان), حيث تتجه خبرات القراء والمستمعين والمشاهدين إلى المزيد من التشتت والتناثر والتفتت من خلال تحول وسائل الاتصال بفعل التكنولوجيا من مخاطبة الجماهير إلى مخاطبة الأفراد، وتحول العملية الاتصالية من كونها عملية اجتماعية تهدف إلى توحيد الملتقين إلى تهافت تكنولوجي هائل في مجال الاتصال يعمل على زيادة الفجوة بين المجتمعات وفرض المزيد من العزلة والفردية بين أفراد المجتمع الواحد.

اضافة اعلان


     يتردد المثل القائل (المدينة لا آذان لها، والقرية لها آذان كبيرة) للتدليل على آليات ووقائع سريان الأخبار وتدفق المعلومات في كل من المجتمع التقليدي الذي تمثله القرية التقليدية، ومجتمع المدينة المعاصرة حيث تخضع القرية لوصاية نظام اجتماعي يتيح عبر الاتصال الوجاهي والشخصي وحده معرفية ووجدانية بين أفراد المجتمع؛ كل حدث في القرية مباح ومتاح للمعرفة ويأخذ به الجميع, علماً إنها ذات آذان كبيرة تلتقط كل شاردة وواردة، بينما يخضع المجتمع الحديث الذي تمثله صيغة المدينة المعاصرة، إلى آليات التغيير الاجتماعي والثقافي والعزلة التي وسعت المسافات, ورفعت الحواجز بين الجماعات والأفراد بفعل توزيع العمل وعلاقات الإنتاج الجديدة التي بدأت بالسيطرة منذ القرن التاسع عشر ويزداد تأثيرها كلما ازداد المجتمع تنظيما وحداثة.


     في المقابل كرس مفهوم القرية الاتصالية العالمية, الذي بدأ بالانتشار منذ نهايات عقد الستينيات من القرن الماضي, عودة مفهوم القرية، ولكن القرية العالمية، أي قرينة العالم في قرية واحدة وذات آذان كبيرة أيضاً بفعل قوة دفع ثورة وتكنولوجيا الاتصال من جهة وقوة جذب وسائل الإعلام لها من جهة أخرى، حيث تعد الأخيرة أكثر المستفيدين من التطبيقات التقنية الجديدة، كان الحلم الكوني البهي ينساب بسهولة ويسر خلال سنوات عقود النصف الثاني من القرن الماضي، ولا شك إن الإنجازات الكبرى والعظيمة التي جناها الإعلام والاتصال الجماهيري بشكل عام تعد إحدى الفواصل الهامة التي عادة ما تقلل من الآثار السلبية لحركة العصف التكنولوجي الهائل الذي يصل أحياناً حد التوحش والردة, بفعل هيمنة آليات السوق، وعلى الرغم من الإدراك التام بان التكنولوجيا الجديدة كغيرها عبر التاريخ تحمل قيم متعادلة، تتحدد اتجاهاتها بطرق توظيفها، حيث تبدو المفارقات ومفاصل التحول الجديدة التي تستدعي القراءة المتأنية.


    كانت المطبعة الشهيرة للألماني (جوهان جوتنبيرغ) قبل خمسة قرون بداية التأسيس لعصر الاتصال الجماهيري، ومقدمة لتبلور مفهوم الجماهير، بمحدداته الاجتماعية والسياسية المعاصرة، أنها ثورة تاريخية كبرى جعلت من الممكن ولاول مرة إصدار نسخ متعددة وهائلة من الرسالة الإعلامية الواحدة إلى أفراد متعددين وربما مختلفين ومتباعدين؛ أي الجماهير، ومنذ ذلك التاريخ منح الاتصال الجماهيري، لمفهوم الجماهير مضامين جديدة وقيمة وتجسيداً واقعيين، كما أسهم في صياغة المفهوم المعاصر للرأي العام، لقد حول الاتصال الجماهيري آحاد الناس المنعزلين مادياً ومعرفياً ووجدانياً في ذرات أحادية متفرقة إلى جماهير تلتقي في معرفة مشتركة نسبياً، ومسافة وجدانية وانفعالية متقاربة، ولقد أكدت وسائل الإعلام بدون ادني شك في القرن الماضي مفهوم الجماهير وحققته على أرض الواقع، وأصبح القوة الأساسية التي تهابها السلطة والأنظمة السياسية والتي طالما اهتز السوط من يدها بفعل تجسد قوة الجماهير وسحرها، وكثيراً ما سقط، وهي القوة التي تثير شهوة الأيديولوجيات والأنظمة وتهابها الديمقراطيات وتحسب كل الحساب لها.


     لقد قامت نظرية "القرية الاتصالية" والتي صدقتها المعطيات خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات على افتراض أن تكنولوجيا الاتصال المتطورة جعلت أجزاء العالم تقترب من بعضها البعض بسبب التوسع في استخدام الراديو والتلفزيون على المستوى الدولي، واستخدام قنوات الأقمار الصناعية فضلا عما أتاحته التطبيقات التكنولوجية في مجال الحاسبات الإلكترونية، ووصلات الميكرويف والألياف الضوئية من خدمات متعددة وهائلة في مجالات الإعلام والاتصال الجماهيري، وهي الأسس التي بنى عليها (مكلوهان ) نظريته في كتابه الشهير "الوسيلة هي الرسالة" الذي قال فيه (إننا نعيش الآن في قرية عالمية وان الوسائل الإلكترونية الحديثة ربطت كل منا بالآخر، وبالتالي فان المجتمع البشري لن يعيش في عزلة بعد الآن، وهذا يجبرنا على التفاعل الجمعي والمشاركة، فقد تغلبت الوسائل الإلكترونية على القيود والوقت والمسافة وأدت إلى استمرار اهتمامنا "كمواطنين أميركيين" بالدول الأخرى). فالرصد الذي اتبعه في تطور المجتمعات وتحولها من الثقافة الشفهية إلى اللغة المكتوبة ومن الثقافة المكتوبة إلى الثقافة الإلكترونية جعله يتصور انه أدرك النهاية الجميلة لهذا التطور باكتمال بناء القرية العالمية التي تتوحد فيها حاجات الناس ومتطلباتهم، إلى جانب وعيهم ومواقفهم ورؤاهم, وربما مشاعرهم حيال الآخرين والأشياء، وبعبارة أخرى قدرة وسائل الإعلام على إعادة إنتاج الوعاء الفكري الموحد في جميع أنحاء العالم.


     ويؤكد (ريتشارد بلاك) بان القرية العالمية التي زعم (مكلوهان) وجودها في الستينيات وتنبأ باكتمالها في نهاية القرن لم يعد لها وجود حقيقي في مجتمع نهاية التسعينيات وبدايات القرن الجديد وفقاً للمنظور والطموح الغربي المعاصر، حيث ان التطور الذي نظر من خلاله (مكلوهان) استمر في التسارع والمزيد من التطور إلى حد أدى إلى تحطيم هذه القرية العالمية وتحويلها إلى ذرات وشظايا.
    [email protected]