هل هُزمت إسرائيل في الحرب؟

 في المفترض ان تُقدم لجنة الفحص الحكومية الإسرائيلية حول مجريات الحرب على لبنان، تقريرها الرسمي في غضون الأسابيع القليلة القادمة، ومما لا شك فيه أننا سنقرأ الكثير من الانتقادات، وحتى الاتهامات، للقادة الإسرائيليين بمستويات مختلفة، حول اداء الجهازين السياسي والعسكري في الحرب.

اضافة اعلان

سيأتي هذا التقرير بعد أسابيع قليلة من استقالة رئيس أركان الحرب الإسرائيلي دان حلوتس، على خلفية الانتقادات التي وُجهت له إعلاميا وشعبيا، لما تسميه إسرائيل "الفشل في الحرب"، هذه الاستقالة التي سارعت "جهة ما" بالاحتفال بها في شوارع بيروت، بإطلاق المفرقعات وحتى الزغاريد، وكأن فرجاً ما سيحل علينا بذهاب جنرال حرب، أو أن من سيخلفه ستكون بزته العسكرية بيضاء ذات أجنحة، وهذا ما سنأتي عليه هنا أيضا.

ولكن السؤال الذي يجب طرحه مجددا، هل إسرائيل فشلت، أو هُزمت حقا على المستوى الاستراتيجي في الحرب على لبنان، وحتى في عدوانها على قطاع غزة، الذي سبق تلك الحرب ولا يزال؟.

في معالجة لي بعد أيام من انتهاء الحرب افترضت ان رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، ووزير الحرب عمير بيرتس، وإسرائيل كلها من بعدهما، ستقيّمان، في فترة ما، نتائج هذه الحرب على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى، وليس النتائج الميدانية العينية، وأعتقد أنهما سيحتاجان لهذا التقييم قريبا، للدفاع عن نفسيهما، أمام الملاحظات التي سيحملها التقرير المذكور.

من الواضح جدا، ان إسرائيل لم تدخل لبنان على بساط مخملي وواجهتها مقاومة عنيدة، كلفت إسرائيل لا أقل من 120 جنديا، إلى جانب 42 مدنيا في العمق الإسرائيلي، جراء الهجوم الصاروخي، الذي كشف الكثير من العيوب من الآلة العسكرية الإسرائيلية، وفي جاهزية إسرائيل في الجبهة الداخلية، وإسرائيل تفاجأت بهذا الكم، وهذا هو أساس "الفشل" الذي يجري الحديث عنه إسرائيليا.

ولكن من جهة أخرى فإن مصطلح "الفشل"، ولكي يكون صحيحا عليه أن يشمل جوانب الحرب ونتائجها الملموسة على ارض الواقع كافة، وهذه النتائج لا تتلاءم مع ما يسمى بـ "الفشل"، فأولا وقبل كل شيء، فإن لبنان تكبد مقتل أكثر من ألف إنسان، وتدمير آلاف البيوت والمؤسسات التربوية والصحية، وشبكات الطرق والبنى التحتية.

إلى ذلك، فإن في جنوب لبنان ينتشر آلاف الجنود الدوليين، الذين لم يأتوا ليكونوا حامية للبنان في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، وهذا التواجد العسكري الدولي له أضرار على المستوى المدني، وخاصة الاقتصادي، لأن الانطباع البديهي هو ان دولة لبنان ليست مستقرة، وضعيفة حتى أشعار آخر، وهذا ما سينعكس على حركة ونشاط الاقتصاد، ويؤجج القلاقل السياسية الداخلية، فهل هذا انتصار لبناني في وجه "الفشل" الإسرائيلي.

واقترح هنا التوقف أكثر عند حقيقة ان أكثر من يتحدث عن "الفشل الإسرائيلي" هي إسرائيل ذاتها، ولكن هذا، بمنتهى الغرابة، يدغدغ "جهة ما" مقابلة، لتبرز هذا "الفشل" وتعتبره انتصارا لها، حتى وإن كان هذا "الانتصار" على حساب لبنان.

حسابات الفشل والانتصار يجب ان تتركز على المدى الاستراتيجي، وطوال الوقت كانت ولا تزال لإسرائيل أهداف استراتيجية توجه أي تحرك لها، بسيطا كان أم كبير، وحينما انطلقت إسرائيل للحرب على لبنان كانت تهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية وضعتها إسرائيل مسبقا، إلا أنها انتظرت الفرصة السانحة، وهذا ما أكدته تقارير ظهرت خلال الحرب في الصحافة الأميركية، قالت إن الحرب على لبنان تم تخطيطها منذ أمد طويل.

وبطبيعة الحال فإن إسرائيل لا تجاهر بأهدافها الاستراتيجية، وإنما تسعى دائما إلى تغليفها بأهداف عينية ميدانية موضعية، وهذا ليس فقط تجاه لبنان، بل أيضا تجاه فلسطين، إن لم يكن أولا.

أول هدف استراتيجي لإسرائيل هو ضمان كيانها، وليس فقط مجرد كيان، وإنما ليكون قاعدة اقتصادية متينة، تدعمها آلة عسكرية مستقلة، لا بل أيضا منتجة، تبث مشهد الاستقرار الاقتصادي قبل السياسي، والمعطيات الاقتصادية الأساسية في السنوات الأخيرة ليست بعيدة عن الهدف، ففي العام 2006، ورغم الحرب العدوانية على لبنان، سجلت التوظيفات المالية الأجنبية في إسرائيل رقما قياسيا، 21 بليون دولار، وعلى ما يبدو فنحن بصدد رقم قياسي آخر في هذا العام، وهذا وحده يوصلنا ان استنتاج ان ازدهارا اقتصاديا في لبنان يقض مضاجع إسرائيل لأنها تتخوف من أن يأتي على حساب حصتها من التوظيفات المالية العالمية.

وكما ذكر هنا، فإن إسرائيل ليست بهذا القدر من الغباء السياسي والعسكري لتجاهر بما عندها من أهداف استراتيجية، لا بل من مصلحتها وفق الظروف الدولية القائمة، ان تظهر كمن "فشلت" في الحرب، لكي لا يظهر من يحاسبها على ما زرعته من موت ودمار في لبنان، وقبلها في قطاع غزة والضفة الغربية.

لقد أعلنت إسرائيل ان هدفها الأول تحرير جندييها الأسيرين في لبنان، كما فعلت في قطاع غزة قبل هذا بثلاثة أسابيع من بدء الحرب على لبنان، ولكن هناك من ينسى ان إسرائيل أعلنت أنها تسعى أيضا إلى إبعاد عناصر حزب الله عن خط الحدود معها، وهذا أمر "لهدف ما" يتم تغييبه.

وعلينا ان نذكر دائما أن الاستراتيجية التي تتبنها الحركة الصهيونية منذ أن نشأت وبالتالي إسرائيل، تعتمد على إظهار أبناء الديانة اليهودية في العالم على أنهم مطاردون أينما وجدوا، وجاءت جرائم النازية لتدعم هذه المقولة، وبعد إقامة إسرائيل أصبح الحديث عن أن إسرائيل كلها مهددة، بفتح الدال، وليست مهددة بكسر الدال.

وبكائيات إسرائيل على ما يسمى بفشلها على لبنان جاء ليخدم الغرض، وأيضا ليعزز مطلب دخول قوات أجنبية إلى الأراضي اللبنانية، وهو الأمر الذي لم تعترض عليه الجهة المنتصرة افتراضيا، حزب الله اللبناني، رغم ما فيه من انتقاص لهيبة لبنان، وهذا ما لم يقلق البعض.

وأكثر من ذلك، فإن تطور الأمور منذ العدوان "الصيفي" على قطاع غزة، وحرب لبنان لاحقا، يجعلنا نشك في ما إذا إسرائيل معنية أصلا بإطلاق سراح جنودها الثلاثة في قطاع غزة ولبنان، أم أنها تريدهم مسامير جحا في المنطقتين، وهذا ما يحدث على أمر الواقع لتبرر استمرار عدوانها على المدى البعيد، الذي يخدم أهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى.

من المرعب حقا أننا أمام التقاء مصالح، بمعنى ان ما اسمح لنفسي بتسمية "بدعة الفشل الإسرائيلي"، تلتقي مع مصلحة الجهات المقابلة، التي لديها أيضا أجندات أبعد من الأجندة الوطنية العامة، إن كان هذا في لبنان، أم في فلسطين، إن كان على صعيد حزب الله، أم حركة حماس، وهذا لكي لا نبقى في لغة الإشارات.

إن إحدى مصائبنا، هو أن إسرائيل تفكر دائما استراتيجيا، وفي المقابل فإن لدينا من يفكر في تسجيل نقاط موضعية ميدانية عابرة لا تنعكس على المدى البعيد، فمقتل جندي احتلال يصبح فوزا صارخا، واستقالة رئيس أركان حرب ليحل محله من هو أشرس، يصبح نصرا عظيما، ويا ليت أعلم كم هي فاتورة المفرقعات الابتهاجية التي أطلقت في ساحات بيروت، وداعا للجنرال دان حلوتس.

هل يُعقل ان حياة الإسرائيلي أغلى بكثير من حياة العربي لدينا، وهل يُعقل انه من أجل محاولة لإطلاق سراح عدد قليل من الأسرى، ان نفسح المجال أمام جزار ليذبح أكثر من ألف لبناني، وخمسمائة فلسطيني في غضون ثلاثة اشهر.

إن هذا لا يمكن ان يكون دعوة للرضوخ لإسرائيل المعتدية، فهناك الكثير من الوسائل والآليات، التي بإمكانها ان تحاصر إسرائيل وترضخها، ومسبقا أدعو لإخراج الأمر كليا من دائرة المزايدات.

إن هناك من يحاول فرض معادلة ظالمة: إما ان تكون مع قوى أصولية مسلحة مغامرة ذات أجندات أخرى، أو أن تكون في خانة السياسة الأميركية، وإذا يصر البعض على فرض معادلة كهذه فبالإمكان أيضا البحث في معادلة أخرى وهي إننا نعاني اليوم، من التقاء مصالح غير مباشر بين الطرفين، وهذا ما قد نأتي عليه لاحقا.

قبل أن تظهر الحركات الأصولية المسلحة على ساحاتنا في السنوات الأخيرة كان نضال عنيد ومشرّف، في فلسطين وفي كل بقعة في الشرق الأوسط، حقق إنجازات أكبر بكثير، حتى وإن يسعى البعض لتشويهها وحتى تغييبها. 

صحافي وكاتب سياسي - الناصرة

[email protected]