هل يتفكك التحالف الحاكم في العراق؟

لم تكد حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تنهي عامَها الأول، حتى بدأ الصدع يدبّ في بنيان الجبهة التي تشكلت عليها هذه الحكومة، والتي تضم -أساسا- التنظيمات السياسية الشيعية التي عارضت رئيسَ الوزراء السابق نوري المالكي، وعملت على إزاحته عن سدة الحكم، أعني، هنا: المجلس الأعلى، والتيار الصدري، مدعومَيْن بالمرجعية الدينية في النجف.اضافة اعلان
لعل الخلاف بدأ غداة إطلاق العبادي مبادرتَه الإصلاحية، مطلع آب (أغسطس) الماضي؛ إذ شَكَت هذه التنظيمات من أن العبادي، سواء في الفكرة العامة أو في بعض التفصيلات، تصرّف بشكل منفرد، من دون الرجوع إلى هذه الجبهة واستشارتها. وربما شعرت هذه التنظيمات بأن بعض هذه "الإصلاحات" سيمسها، ولاسيما تلك المتعلقة بإلغاء أو دمج مناصب سياسية. ثم تفاقمَ الأمرُ، في الأيام الأخيرة، مع شعور متجدد بأن العبادي ماض إلى تعميق تفرده في اتخاذ القرار وتهميش التحالف الذي أوصله إلى السلطة. وهذه المرة، أقدم العبادي على تعيين أشخاص في مناصب عليا، من دون استشارة حلفائه، بل بما يخالف اتفاقات سابقة مع هؤلاء الحلفاء على توزيع هذه المناصب.
أكثر من ذلك، يبدو أن العبادي عاد (أو يروم ذلك) إلى مسألة "التعيين بالوكالة". وهي استراتيجية اتبعها المالكي، إذ عيّن أشخاصا بمناصب عليا، ولكن من دون أن يُثبَّتوا في مناصبهم بشكل دائم، إذ يحتاج التعيين في هذه المناصب إلى مصادقة مجلس النواب. فعلَ المالكي ذلك ليخرج على قيود التوافقية، التي جعلت اتفاقَ الفرقاء السياسيين كافة على أشخاص محددين أمرا أشبه بالعسير. ولذلك، يتحدث حلفاءُ العبادي، الآن، عن أنه بدأ يمارس أخطاءَ المالكي نفسها.
وفي الحقيقة، ما كان للسلطة التنفيذية أن تعمل من دون هذه التحايلات؛ من دون حكومة الظل، حكومة الوكلاء والمستشارين. غير أن المالكي كان يعمل، في الوقت نفسه، على جعل حكومة الظل هذه شبكة مرتبطة به، بشخصه. وهذه الشبكة، الخالية من أي تمثيلية (Representative)، كانت تؤسس لاستحواذ المالكي على السلطة، وضربه سائر المؤسسات السياسية. إنها الشبكة التي تأسست عليها تسلطيةُ المالكي.
هل يريد العبادي، فعلا، أن يستعيد أنموذج المالكي؟ هل يريد أن يتخلص من حلفائه، وهو يواجه هجوما شرسا من اليمين الشيعي: تيار المالكي وقادة الحشد الشعبي؟ كيف بدا للعبادي أن يستفز حلفاءَه، في الوقت الذي تتراءى فيه سهام خصومه؟
إلى الآن، لا يبدو أن العبادي يريد أن يستنسخ أنموذج المالكي في الحكم. ولكن المؤكد أنه -ما بعد إطلاق مبادرته الإصلاحية وحماسة الجمهور لها- فكّر في أن يجعل من الحركة الاحتجاجية (التي كانت مبادرته الإصلاحية، في الحقيقة، نتيجة لها) أشبه بـ"تفويض شعبي" له، يضاف إلى الدعم غير المسبوق الذي قدّمته له مرجعيةُ النجف. ولعله فكّر بأن يجعل من هذين الركنين (النجف، والتفويض الشعبي) قاعدة حكمه، بدلا من التحالف السالف، الذي هو -في النهاية- لن يستطيع عصيان مرجعية النجف.
يبدو لي أن هذا الفهم هو الذي قاد العبادي إلى ما سمّاه حلفاؤه "تفردا في القرار".
وبالتأكيد، يواجه العبادي الإشكاليةَ نفسها التي واجهت كل الحكومات العراقية ما بعد العام 2003، والتي تتمثل في التعارض بين ضرورة وجود تحالف واسع، توافقي بالتعريف، وبين كفاءة جهاز الدولة.
ولكن العبادي وقع في المشكلة نفسها التي وقع فيها المالكي: الانهماك بتصميم هيكل السلطة، من دون المبادرة إلى عمل سياسي جاد؛ الانشغال بالتعيينات، من دون تفعيل مبادرته الإصلاحية، التي لم نرَ منها شيئا، وهي ستدخل شهرها الرابع.
أظن أن على العبادي أن يدرك أن قاعدة حكمه الحقيقية هي قدرته على إعادة روح السياسة في البلاد، التي أنهاها العنف؛ قدرته على بناء العتبة الأولى للتوافق المجتمعي.
من دون هذا، الذي يقتضي مبادرة سياسية حقيقية، لن يبقى تفويض شعبي (وهو لم يتحقق أصلاً)، ولن تبقى النجف تنتظر منه إلى ما لا نهاية.
لعله يفكر الآن بأن قوته تتأتى من انعدام البدائل. والكثيرون يعتقدون أن سقوط العبادي سيعني احتلال التطرف لقلب مؤسسة الحكم في بغداد. ولكن التجارب علّمتنا أنه مهما بدت البدائل صعبة، فإنها ليست مستحيلة.