هموم اللامركزية

بعد تسعة أشهر من انتخابات المجالس المحلية لتطبيق اللامركزية الإدارية والمالية في البلاد، ما تزال الصورة غامضة بالنسبة للنتائج المتحققة، وما يزال الكثيرون يشككون في هذه الخطوة باعتبار أن الضبابية ما تزال تحيط بها الى حد كبير.اضافة اعلان
لكن نظرة الى التجارب العالمية في هذا المضمار تشير الى أننا لسنا وحدنا من نعاني من عدم وضوح الصورة. فمع أن أهداف اللامركزية مطلوبة لغاية وضع الأولويات المناسبة من الأقاليم بدلا من المركز والعمل على تنفيذها ومحاسبة المسؤولين المحليين عن ذلك كونهم أقرب الى ناخبيهم من النواب على المستوى الوطني، إلا أن تحقيق اللامركزية يأخذ وقتا طويلا ويحتاج الى تضافر العديد من الجهود ووجود الإرادة السياسية المستدامة لذلك. وها هي تونس التي شهدت انتخابات مماثلة قبل أسبوعين تواجه المصاعب نفسها مع أن لديها خطة مدتها سبعة وعشرون عاما لوضع اللامركزية موضع التنفيذ الكامل.
يقول الباحث توم كاروثرز، وهو من أهم الخبراء على المستوى العالمي في مجال الانتقال الديمقراطي، إن عملية الانتقال للامركزية في العالم تواجه أربع عقبات رئيسية:
العقبة الأولى هي معارضة السلطة المركزية للتخلي عن سلطاتها المالية والإدارية التي تمارسها بشكل انفرادي لصالح الأقاليم. وبغض النظر عن الترويج الذي تمارسه السلطة عن اللامركزية، فإن هذه السلطة نفسها تضع العراقيل كافة أمام وضع القرار بيد السكان في الأقاليم والتخلي عن المركزية المالية والإدارية. وتبعا لذلك، فإن أهم الوزارات التي تحارب اللامركزية في العالم عادة هما وزارتا المالية والداخلية.
العقبة الثانية تتمثل في ضبابية قوانين اللامركزية. فهي في غالب الأحيان معقدة وغير واضحة، خاصة بالنسبة لطبيعة الصلاحيات المعطاة للأقاليم. وتبعا لذلك، يصرف جهد كبير في تفسير القوانين ومحاولة فهم ما ترمي اليه بدلا من وضع إجراءات تفصيلية لنقل الصلاحيات من المركز.
أما العقبة الثالثة، فهي ظهور طبقة جديدة من المسؤولين المنتخبين على المستوى المحلي تنافس الطبقة القديمة التي كانت تسيطر على البلديات والمجالس المحلية، ما يعني تنافسا على السلطة في المجالس المحلية لفترة انتقالية على الأقل.
وتتمثل العقبة الرابعة في أن الطبقة المنتخبة الجديدة، مع كونها أكثر تمثيلا وأقرب الى المجتمعات المحلية، إلا أنه ينقصها في الكثير من الأحيان الخبرات الإدارية والتقنية المطلوبة.
لكل هذه الأسباب، فإن التحول للامركزية عملية طويلة الأمد، وتمر بمصاعب جمة تحول دون تحقيقها لأهدافها في وقت قصير، حتى وإن كانت هناك إرادة سياسية لتجاوز العقبات التي تقف في الطريق.
هناك دول عدة استطاعت تجاوز الصعوبات وتمكنت من تحقيق هذا الانتقال ولو على مراحل، منها البرازيل والمكسيك مثلا، ما يعني أن اللامركزية هدف قابل للتحقيق، كما أن عوائده على الاقتصاد الوطني يمكن أن تكون كبيرة، وكذلك على شعور الناس بأنهم شركاء في صنع القرار المتعلق بهم.
محليا، نعاني من الغموض نفسه الذي يكتنف العملية، ولسنا الوحيدين في العالم الذين مروا أو يمرون بالتجربة. جلالة الملك كان واضحا في أمله تحقيق اللامركزية التي من شأنها أيضا الارتقاء بمجلس النواب وجعله مجلسا تشريعيا رقابيا بامتياز لا مجلسا خدماتيا، ولكن السؤال يكمن في توفر الإرادة لدى الحكومة بالبدء بعملية جادة لتحقيق هذه النقلة النوعية، كي يتعدى الموضوع إجراءات إدارية بحتة قد تزيد البيروقراطية داخل مؤسسات الدولة من دون أن تضع القرار في يد المواطن وتعود بالنفع المرجو عليه.
يتطلب كل ذلك خطة واضحة ومعلنة، كما يتطلب ذلك التواصل المستمر مع المجتمع لشرح الخطة، وتقديم التدريب اللازم للمنتخبين وغيرها من الإجراءات حتى يقتنع المواطن بفوائد اللامركزية، لأن واقع الحال اليوم أنها لا تعني الكثير له.