هوية الدولة من جديد

الجدل الدائر اليوم بين نخبنا حول الورقة الملكية النقاشية السادسة، يجسّد بشكل كبير جداً أحد أهم الأسباب التي تقف وراء نشر الملك لهذه الورقة، وهو حسم الجدل المتعلق بهوية الدولة الأردنية، لاسيما بعد أن دخلنا في متاهات أنتجتها نقاشات وسجالات عقيمة بين فريق يريدها دولة دينية، وآخر يسعى إلى علمنتها، وفي الأثناء يجعل كل منهما نفسه وصياً على الهوية الوطنية المنشودة.اضافة اعلان
وقد حسم الملك هذا الجدل، بتأكيده أن الدولة الأردنية "مدنية"، تقوم على الدستور وسيادة القانون، وتُصان فيها الحريات العامة. إذ عرّفها جلالته بوضوح شديد لا يقبل اللبس والتأويل، بقوله: "إن الدولة المدنية هي دولة القانون التي تستند إلى حكم الدستور وأحكام القوانين في ظل الثوابت الدينية والشرعية، وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر، وتُحدد فيها الحقوق والواجبات دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العِرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري".
رغم ذلك، فقد بدا أن كل طرف من المتجاذبين والمتصارعين حاول، خلال اليومين الماضيين، تأويل الورقة النقاشية للقول إنها أقرب لوجهة نظره، وإنها تمثل بالتالي انتصارا ملكياً لرؤيته وموقفه. إذ اعتمد التيار الداعي لدولة إسلامية، مثلاً، بعض عبارات في الورقة، للبرهنة على صحة ما يقول، وكأن الدولة المدنية هي دينية أيضا! وهذا تأويل غير صحيح أبدا، رغم أن الدولة المدنية تضمن وتكفل حتماً الحريات الدينية.
كما رأى فريق آخر في التركيز على مفهوم "الدولة المدنية" عموماً، وضمنه سيادة القانون، انحيازا لهذا الفريق وشعاره. فيما ظن، بالمقابل، بعض الداعين إلى علمانية مطلقة مع الإشارة الى التشويه الممنهج الذي تعرض له هذا المفهوم، أن الورقة تضعف موقفهم وتبتعد عنه كثيرا، لاسيما حينما أكد جلالته أن المبادئ الواردة في الورقة النقاشية والتي تشكل جوهر الدولة المدنية، تجعل من الأخيرة "ليست مرادفا للدولة العلمانية، فالدين في الدولة المدنية عامل أساسي في بناء منظومة الأخلاق والقيم المجتمعية، وهو جزء لا يتجزأ من دستورنا. ولا يمكن أن نسمح لأحد أن يستغل أو يوظف الدين لتحقيق مصالح وأهداف سياسية أو خدمة مصالح فئوية".
بصراحة، من حق الجميع أن يأخذ ما يناسبه من كلام الملك لتقوية وجهة نظره، وليس في ذلك خطأ. لكن الخطأ أن نعود إلى المربع الأول في النقاش حول مدنية الدولة؛ علمنتها أم أسلمتها! وكأننا نعيد تعريف الماء بالماء، مع تناسينا القاعدة الرئيسة، وهي أن الدولة المدنية لا دينية ولا عسكرية أيضا، بل هي دولة تظلل الجميع، وتعطيهم المساحة المطلوبة من الحرية لضمان حقوقهم.
ومثل هذا الخطأ يعني حتماً الابتعاد عن فكرة الملك الأصلية التي تقوم على بناء دولة تحكمها سيادة القانون وتكريسه وتطبيقه، لتخليصنا من أمراضنا البيروقراطية المتمثلة في الواسطة والمحسوبية خصوصاً، واللتين تضعفان دولة القانون. فيما يسعفنا تطبيق مبدأ تساوي الفرص والعدالة في مواصلة مسيرة بناء أردن مدني حقيقي، عبر معالجة التشوهات التي لحقت بالفكرة نتيجة ممارسات رسمية أو مجتمعية وفردية.
يبقى أنّ من حق كل لون وفكر سياسي واجتماعي وثقافي أن يعتقد ما يشاء. لكن المهم أن يتحلى الحوار بالاحترام والوسطية بين كل الأضداد. ذلك أن الهدف هو تقليص مساحات الخلاف، للتوصل لحلول تقرّب وجهات النظر، كما تؤسس لقواعد حقيقية من قبول الآخر واحترام رأيه وحريته، بغض النظر عن حجم الخلاف والاختلاف.
وبعيدا عن التعريفات والتوصيفات والمفاهيم، فإن المهم أن ننتقل لمرحلة جديدة من التنفيذ العملي، علّها تكون خطوة تأخذنا إلى مدنية حقيقية تستوعب كل الأيديولوجيات والأفكار، من دون إقصاء أحد أو السعي إلى فرض إيقاع محدد عليه، عبر السطو على فكره. هذا المنجز إن تحقق يكون أفضل ما حدث للأردن حتى الآن، أقله حتى لا يُتهم أحد يدعو إلى مدنية الدولة بالكفر، وتنهال عليه أوصاف وتهم ما أنزل الله بها من سلطان.