"هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا"

د. محمد المجالي

أكتب من شيكاغو، حيث مؤتمر الجالية الإسلامية في الولايات المتحدة، محاضرات وندوات وتعارف وحوارات متنوعة ومسابقات قرآنية وتحليلات لواقع الأمة ومشكلاتها، كلها تشعرنا أن الأمة بخير، وأن الشعوب حية وإن فرقتها السياسة، تتوق لدينها وتتأسف على التخويف منه، وعلى سوء فهمه وسوء تطبيقه من كثيرين.اضافة اعلان
جميلة هي مناظر العائلات والكبار والشباب والشابات والصغار، من مختلف الألوان واللغات والبيئات والأعراق، حين يجتمعون في أيام ثلاثة أو أربعة، للقاء العلماء والدعاة والمتخصصين والضيوف من أرجاء العالم، تظاهرة إيمانية فكرية تنعش الروح وتحيي الأمل وترفع الهمّة وتجدد العهد مع الله، بأن نكون على صراطه المستقيم، وفق شرعه الحكيم.
يكاد يجمع المشاركون وهم آلاف، بأن من أهم مشكلات المسلمين هي الهوّة بينهم وبين أنظمتهم، وقصور الفهم الحقيقي لهذا الدين في أصوله وفروعه، وبالتالي نتوقع الانفلات، سواء من الدين نفسه بعدم الالتزام، أو من خلال التطبيق العملي السلبي، وهذا أخطر سواء في بلاد المسلمين أم في غيرها، حين تُعكس الصورة السلبية عن المسلمين وعن الدين، وحينها تعمل أداة الإعلام عملها، وتسلَّط الأضواء على السلبيات دون الإيجابيات، وللأسف تشترك مؤسسات ومنظمات غربية وحكومية عربية في هذا التشويه، وكأن الإسلام غير مرغوب ولا مطلوب، والواقع يتحدث بغير ذلك.
هذه الآية عنوان المقال وردت في القرآن ثلاث مرات، في سورتي التوبة والصف بصيغة: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"، وفي الموضعين قبل هذه الآية حديث عن المكر لهذا الدين وقوله تعالى في سورة التوبة: "يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"، وفي الصف مثلها مع تغيير بسيط: "يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون"، فالمشترك هو محاولة أعداء المسلمين أن يطفؤوا نور الله، وهو هذا الدين، ولكن هيهات، فأنى للنور أن يُطفأ، ويضمن الله إلا أن يتم هذا النور، ولو كانت التحديات وعظمت، وبعدها يزيدنا الله طمأنينة بأنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فجمع بين وصفي الكفر في الأولى والشرك في الثانية، فهؤلاء لا يريدون للإسلام أن ينتشر، فيجتهدون لإطفاء نوره بأساليبهم المختلفة، ولكن أنى لهم ذلك.
أما الآية الثالثة فقد جاءت في سورة الفتح في آخرها، بعد الحديث عن صلح الحديبية والمشركين عموما ومكرهم ورعاية الله لدينه، فجاءت في آخرها البشارة بدخول المسجد الحرام وتصديق الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم، ويزيد الله رسوله والمؤمنين بشارة بأنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فليس الأمر دخول مكة فقط وأداء العمرة، ولا حتى فتح مكة وحدها، بل سيظهر هذا الدين على الأديان كلها، ولأن البشارة عظيمة فكأن سائلا يسأل: ومن يشهد على ذلك؟ فيجيب الله تعالى: "وكفى بالله شهيدا".
أسوق هذا الكلام وأربطه بما أنا فيه الآن حيث هذا التجمع الذي ينبئ عن وعي وفهم كبيرين بين الجالية الإسلامية في أميركا رغم الفوبيا والتشويه والتشديد، ولعل ما ينطبق على أميركا هو نفسه الموجود في بلدان كثيرة، فالتوجه إلى الإسلام يزداد، سواء الالتزام به، أو الدخول فيه من جديد، وهي عظمة هذا الدين من جهة، ورعاية الله له، حين يسخر الدعاة وأصحاب الفكر الصحيح ليكونوا أهلا للدعوة إليه سبحانه.
استوقفتني كلمتا (الهدى) و (دين الحق) في هذه الآيات الثلاث، فقد أرسل اللهُ رسولَه بهما، وينبغي أن تكونا في صلب فكر الدعاة وأولوياتهم، فالهدى يشمل كل ما من شأنه تبصير الناس بدينهم ومصالح دنياهم وآخرتهم، ودين الحق أمر يهز الوجدان بأن تكون دعوتنا لهذا الدين في عمومياته، لا لأفكار جانبية ولا لأفهام خاصة تابعة لأهواء واجتهادات جزئية، بل دين الحق في عمومه بلا استحياء ولا مواربة ولا توجّس.
يكاد يُجمع المراقبون والمتابعون للشأن الإسلامي من أتباعه وأعدائه على أنه الدين الأكثر انتشارا في العالم، يُقبل عليه كثيرون، ولعل هذا ما يخيف الغرب على وجه التحديد، فهناك عوامل طبيعية ثلاثة تجعل عددهم يزيد: التحوّل الى الإسلام، والهجرة، والإنجاب الأكثر عند المسلمين أنفسهم، فالمسألة مسألة وقت ليس إلا، وأظهرت مقاطع فيديو لئيمة خطورة هذا الأمر على الغرب، فكانت حملات الفوبيا والتشويه الذي وصل بهم إلا إنشاء مجموعات إسلامية يغرَّر بأتباعها وتوجَّه لتطبيق دموي ومتخلف لهذا الدين، فكانت هذه الحملات العالمية لدرجة أن ارتبط مصطلح الإرهاب بالإسلام، وتفنن الغربيون ومعهم ببغاوات كثر من أبناء المسلمين قادة وأفرادا ليشاركوهم الحملة على الإسلام، وللأسف.
ديننا بحاجة إلى مصالحة بين القادة والشعوب، وبحاجة إلى فهم حقيقي لأبجدياته، فلا ينقصنا عدد، بل النوع وأصحاب الهمم والوعي، ونحن بحاجة أيضا إلى احترام النفس الإنسانية وإعطائها حقوقها وأهمها حريتها، فقد ولى عهد الاستعباد، والعالم الآن منفتح لا تخفى فيه على الناس أسرار ولا ألغاز، وليس مطلوبا أكثر من ذلك من القادة على وجه التحديد، فقد مضت عقود من الفساد السياسي في غالب عالمنا الإسلامي، وآن الأوان لتغيير الصورة واحترام الشعوب وتوجهاتها، وفي عالمنا الإسلامي فلا بد أن يكون للدين بمفهومه العميق والحضاري بعده الروحي والعملي، فنحن به أعزة لا بدونه، وكفى بالله شهيدا.