"وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"

lmyzsbcf
lmyzsbcf

د. محمد المجالي

مِن توجه العبد الصادق إلى الله إقراره بنعمه وفضله عليه سبحانه، فهو الخالق والقادر والرازق، وهو بذلك الجدير بأن يتوجه العبد إليه وحده، فليس من يخلق كمن لا يخلق، فمن يعطي بلا مقابل، وينعم على المؤمن وغيره، حقيق بأن يأنس العبد به، وأن يركن إليه وحده.اضافة اعلان
جاءت هذه الآية(وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها) في القرآن مرتين، في سورة إبراهيم وفي سورة النحل، وكانت الآية في سورة إبراهيم: "وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار"، بينما في سورة النحل: "وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها، إن الله لغفور رحيم"، فكانت الفاصلة مناسبة لسياق كل منهما، ففي سورة إبراهيم كان السياق يتحدث عن المنكرين لنعم الله، الجاحدين بها، فتعرض النص لطبيعة سلبية في الإنسان، أنه ظلوم كفار، ظلوم لنفسه، يكفر بنعم الله تعالى ولا يشكر، بينما السياق في سورة النحل فهو في معرض نعم كثيرة أنعم الله بها على الإنسان، وكلها رحمة به وإرشادا له بأن يتعرف على الغفور الرحيم، فهو بإنعامه على الإنسان لا يرجو منه شيئا، فالله غني عن عباده، ونحن الفقراء إليه سبحانه: "يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد".
هو الإنسان الذي خلقه الله وكرّمه وخلقه في أحسن تقويم، خلقه ليكون في الأرض خليفة، وحمّله الأمانة التي نأت عن حملها السماوات والأرض والجبال، كرّمه بالعقل والإدراك، وأسجد له الملائكة، ونفخ الله في آدم من روحه، ولكنه في المقابل عجول جهول كنود ضعيف جحود ظلوم كفّار، وقد ذكر الله هذه الصفات السلبية في الإنسان ليس ذما له بقدر ما أنها الحقيقة التي ينبغي أن تراعى تربويا ونفسيا ودعويا وإصلاحا، فالإنسان ليس معصوما ولا كاملا، بل شاء الله تعالى أن تكون الخطايا بل الحروب والعداوات بين الإخوة والصحابة والأقارب لنعلم هذه الحقيقة، ونتدارك الخلل الموجود فيها.
نعم الله كثيرة على الإنسان، ولو بقي ساجدا راكعا ينطق لسانه بالحمد والشكر لما وفّى الله نعمة من نعمه، فكيف بنعم لو بقي العبد يحصيها لما أحصاها، وهي رسالة للعبد أن ينظر في نفسه، يتفقد حاله، ويصارح ضميره، ويحدّث عقله: أين أنا من هذه العناية الإلهية؟ ولم لا أقابل نعمه بالشكر؟ أهي نعم أنا حصّلتها بنفسي وجهدي؟ كما قال قارون من قبل، هل وجدت صدفة؟ وهل وجودها عندي خصوصية لي أم ماذا؟
نحن في هذه الحياة في ابتلاء، سواء في السراء أم الضراء: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة"، وقال تعالى: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانن"، فنلاحظ وصف الابتلاء في الحالين، ونلاحظ ردة فعل الإنسان عند الابتلاء بالشر، كيف ينقلب ويسخط على الله تعالى.
حري بالإنسان العاقل أن يدرك أن الذي أعطاه هذه النعم قادر على سلبها بأبسط الطرق، فما أسهل أن تنقلب النعمة نقمة، والصحة سقما، والغنى فقرا، والأمن خوفا، والراحة شقاء، فهو مقلب الأمور سبحانه، إن أعطى فليس لحب من أعطاه، وإن منع فليس لبغض من حرمه، بل هي الدنيا، دار ابتلاء، ونحن نسير في قدر الله، لا ندري ما الأفضل لنا: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
الإنسان بحاجة إلى المشاعر الإنسانية ليعيش بها مع بني جنسه، فهو منطق الأشياء أن يقابل نعم الله بالشكر، ويضع نفسه مكان الآخر ويعامِل الإنسان كما يحب أن يعامَل، فالدنيا متقلبة، ولا تستقيم على حال، وهي ممر لا مقر، وإلا فالمستقر عند الله، حسب ما قدمه الإنسان لله.
يصاب الإنسان أحيانا في عقله، يصاب بجنون العظمة، أو الجحود، أو النسيان والظلم، ولا يعتبر بمن حلت به النقمة بعد النعمة، بمن تبدلت أحواله، هذا الشعور إن سيطر على الإنسان، ورافقه شيء من التسويف في مراجعة الأمر ربما يضره، بل ربما يُختَم على قلبه، وهيهات هيهات حينئذ أن يتذكر أو يقرَّ للخالق بفضله. ومن هنا كان بالضرورة أن يبقى العبد على صلة بالله، ولو قرأ القرآن يوميا لمر على ما يذكره بخالقه، أو بمن حلت عليه العقوبة، أو بمن حاز التأييد والفضيلة، ليعيش شاكرا منيبا منكسرا لمن بيده ملكوت كل شيء سبحانه، فلا يخطر بباله ولو للحظة أنه قادر على الاستقلال عن الله.
بقي أن أذكر أن الشكر عمل لا مجرد قول، فحين يقول الله تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم"، فالشكر عمل، وكل نعمة حسب طبيعتها، فشكر المال صدقة، وشكر الصحة عبادة، وشكر الجاه إصلاح، وهكذا، ومن هنا قال الله تعالى: "اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور"، فكن من هذه القلة، لتفي ولو الحد الأدنى من حق الله عليك، ولتنال وعده بأن يزيدك من فضله سبحانه، هو حسبنا ونعم الوكيل".