"والذين لا يشهدون الزور"

د. محمد المجالي

هي إحدى صفات (عباد الرحمن) التي ذكرها الله تعالى في آخر سورة الفرقان، وابتداء فهي سورة الفرقان، والفرقان فرق بين حق وباطل، بين خير وشر، إيجابي وسلبي، ومحاورها كلها تسهم في بناء الشخصية الفرقانية، ابتداء باتباع الفرقان (القرآن)، والدعوة إلى منهجه تبشيرا وإنذارا، وفي ثنايا السورة شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم أن قومه اتخذوا هذا القرآن مهجورا، فالقرآن منهج حياة شامل، وهو إمامُنا وأمامَنا نقتدي به، فمن كان القرآن أمامَه وإمامه قاده إلى الخير والجنة، ومن ترك القرآن خلفه واتبع هواه، ساقه القرآن إلى الشقاء والعذاب.اضافة اعلان
في خاتمة السورة، بين الله صفات عباد الرحمن فهم الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وهم الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، وهم الذين يستعيذون من عذاب جهنم، وهم الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، وهم الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، وهم الذين لا يشهدون الزور، وهم الذين إذا مروا باللغو مروا كراما، وهم الذين إذا ذُكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا، وهم الذين يدعون ربهم بأن يهب لهم من أزواجهم وذرياتهم قرة أعين، وأن يكونوا للمتقين أئمة، مع ما بين هذه الصفات من لطائف ورحمات تضفي على النص بكامله روعة تليق بهؤلاء العباد الذين انتسبوا إلى الرحمن، وأنعم بها من نسبة.
كل هذه الصفات تستحق الدراسة والتعليق، ولكنني هنا أركّز على (والذين لا يشهدون الزور)، ولكلمة (شهد) معنيان: الحضور والإخبار، و(الزور) بمعنى الباطل: قولا كان أو فعلا، وغلب على الكذب، فهو من التزوير والخداع، والباطل كله خلاف الحق فلا قرار ولا حقيقة له.
وبذلك يكون معنى هذه الصفة أنهم لا يشهدون شهادة الزور، وهي شهادة الكذب، أو لا يشهدون الكذب عموما، فالكذب من الكبائر، وهو وسيلة للخداع وتضييع الحقوق، ومن ثم إلى الكراهية والانتقام وفوضى العلاقات، والكاذب يعلم بأنه يكذب، وهو بذلك يظن نفسه قد نجا ولا يعلم بأن الله يعلم السر وأخفى لا مجرد أنه يسمع ويبصر، وبناء على ذلك، ولاستسهال الإنسان موضوع الكذب قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا"، وعكس ذلك الصدق.
وعلى المعنى الآخر فهم الذين لا يحضرون الباطل، بمعنى أنهم لا يتواجدون في الأماكن أو المجالس التي فيها باطل، خاصة تلك التي يُستَهزأ بها بآيات الله ويُكفر بها، أو التي تُقترف فيها الكبائر، فشخصية المسلم أسمى من أن تنخدع بالباطل، وتشارك هذه المجالس، فهي متميزة متألقة منتمية لحق واستقامة، لا لباطل واعوجاج.
ولئن كان معنى شهادة الزور واضحا، فالصدق منجاة، وينبغي أن يكون منهجا للمؤمن يتحرى الصدق ولو على نفسه وأهله، فإن الذي أركّز عليه هنا المعنى الآخر، لتساهل الناس فيه، فلقد بين الله تعالى في آيتين حرمة حضور المجالس التي فيها باطل واستهزاء بآيات الله، فقال تعالى في سورة النساء: "وقد نزل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكفَر بها ويُستَهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا"، وقال: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين"، فهما نصّان واضحان ينهيان المسلم أن يكون إمّعة بلا قرار، بل منتبه يقظ يأبى على نفسه التردد والخضوع للباطل، أو حتى مشاركته شيئا من تفاصيله.
الآيتان نهيتا عن مجالسة من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها، إلا أن يخوضوا في حديث آخر وإلا فهؤلاء مع أولئك، وبينت الآية بطريقة مباشرة أن هذا ديدن المنافقين المخادعين للمؤمنين، المنتمين لأوليائهم الكافرين، فليترفع المؤمن عن مثل هذه المجالس المؤذية التي تهبط به إلى مستوى لا يليق به، فهو إما داع إلى الحق فيأمر وينهى حتى يخوضوا في حديث غيره، أو يجتنبهم كليا إن أصروا على باطلهم، فلا يشرفه وجوده مع هؤلاء.
الآية الأولى من سورة النساء المدنية، والثانية من سورة الأنعام المكية، فمجالس الاستهزاء مستمرة ما دام الكفر والنفاق، وهما موجودان إلى ما شاء الله، فليتميز المؤمن بإيمانه وشخصيته، ولا يسمح لنفسه أبدا بأن ينصبغ بأوصاف هؤلاء.
وتطبيقات هذه المجالس كثيرة هذه الأيام، والمؤمن ينبغي أن يميز بين ما يستشعر أنه يزداد به إيمانا، أو على الأقل يحافظ على مستواه الإيماني، وبين ما هو فعلا يؤثر سلبا على إيمانه، حين يخالط أهل الباطل في مجالسهم وأقوالهم ومجونهم وعاداتهم، فالإيمان رأسمال المؤمن، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ونحن أحوج بأن نحافظ على إيماننا وسط هذه الأمواج الهدارة من الشبهات والشهوات التي تعصف بالنفس والمجتمع، وهنا نتذكر كيف أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين (وقيل مائة) مرة، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليعلمنا كيف نتوب وننيب إليه تعالى، لتكون صحائفنا نقية من الذنوب.
هناك باطل كثير يغزو بيوتنا فضلا عن مجتمعاتنا، ولا بد من يقظة القلب، وانتباه العقل، وانتهاج الصراط المستقيم، ومشكلة الذنوب (صغيرها وكبيرها) أن أحدنا إن ولج فيها أو على الأقل اقترب منها، فلا يضمن أحد الرجوع من دائرتها، فالنفس أمّارة بالسوء، والشيطان يوسوس، وأهل الباطل كُثر، ولكن الله أعظم من هؤلاء جميعا، هو ولي المتقين، وأنيس المؤمنين، وملاذ الخائفين، وناصر المظلومين، هو حسبنا ونعم الوكيل.