وداعية لشيخ القراء عامر الدجاني: نقرأ لنعرف.. لنخرج من العتمة

الراحل عامر الدجاني.-(من المصدر)
الراحل عامر الدجاني.-(من المصدر)

ليس صباحا ذاك الذي رأيت فيه صورتك وتحتها نعيٌّ، يحكي رحيلك عن عالمنا الذي اشتدت قسوته؛ فما احتملها قلبك الشفيف، وروحك الدافئة.

اضافة اعلان

ومثل سنديانة تتعربش أغصانها الخضرة، توقفت طويلا يا عامر الدجاني، أمام أولئك الذين لم تسنح لهم الحياة، بنيل متعة القراءة، وتحويل أرواحهم إلى هواء رشيق؛ يمسك بالمعرفة والسفر إلى عوالم جديدة، كانت نائية عنهم.

ها أنت يا عامر، يا شيخ القراء وحليف العارفين، وصديق المحرومين من الكتب، ومؤلف الألغاز الساحر، تقف اليوم شاهدا على حاجتنا الملحة للخروج من نفق الجهل، وإدراج أحلامنا على صفحة الواقع، لنصبح شعوبا تقرأ، تقرأ وهي تأكل.. تقرأ وهي تشرب، تقرأ وهي على سرير المرض لتشفى، تقرأ وهي تركب الباص، تقرأ وهي تقتنص ساعة هدوء في مكان ما، تقرأ لتعرف.. لتخرج من العتمة التي أضحت عنوان هذا الخريف المرعب لأحلامنا في النهوض والوقوف على قدمين ثابتتين في عالم؛ يلهث في ركضه وراء المعرفة والقراءة، ويسبقنا إلى المقدمة.

ويا عامر، يا الحاضر كالبرق في توقنا الحار للتنفس بحرية وجمال وحب، ها وجودك المشرق يظلل عرائشنا البسيطة، فألمحه يصعد درجات "أزبكية عمان"، متمهلا، رؤوفا، حانيا على كل شيء يراه، متلعثما في تحديقه بالكتب المستلقية على رفوفها، وتنتظر العارفين. وها ألمح أصابعك الصغيرة تقلب الكتب بحرص جواهرجي، ينقش سيرته بين صفحاتها وكلماتها، ليبني في عروقها الندية، صورة الحالم، الذاهب إلى أقصى أحلامه، بأن المعرفة طائر لا يتوقف عن التحليق.

ها أنت بكل يناعة العارف المدهشة، ما زلت تمسك الأعوام بأصابعك كمعزوفة ملهمة، تريد أن تتمها ببناء أكبر مكتبة عربية، يجلس في أبهائها الطلبة والباحثون والأطفال، ليصوغوا حلمك بـ"شعب يقرأ.. لا يجوع ولا يستعبد"، و"جيل يقرأ.. لا ينكسر ولا ينام على الخوف والرهبة من التعثر".

ترحل اليوم، ونحن نسأل: لم يرحل المدهشون، أصحاب الأحلام مبكرا؟ أيها السبعيني، الذي ما تزال حقيبته محشوة بالأفكار والكلمات والرغبات الجامحة، لصيد أجمل الكتب وتوزيعها على الأندية والجمعيات والمدارس الخاوية على أعقابها من الورق الجميل والحميم، ورق العقل والمعرفة.

ترحل لنبحث من جديد عنك. لنتصل بك هاتفيا، يا عامر.. تعال، ثمة كتب جديدة، تستحق أن تتلفت إلى قراء جدد ينتظرونك في ساعات أحلامهم، بمعارف تشعل لهم شموع الجمال والحياة المشرقة في بلادنا التي ترقص للجهل؛ وتوزعه على أبنائها كالمرض.

التقيت عامر الدجاني ظهيرة يوم مفعم برائحة الكتب، كان يقف أمام الرفوف في "أزبكية عمان"؛ مفتشا عن عناوين جديدة، يضيفها إلى مجموعته، التي دأب منذ أعوام طويلة على جمعها، لبناء مكتبة كان يحلم أن يؤمها كل حالم بعالم خال من الزوان.

حين اقتربت منه لأحاوره، كان بسيطا، مقلا في كلامه، منشغلا في مهمته، متسائلا حول بعض عناوين الكتب، ومحتواها، وما يمكن ان تقدمه للقارئ.

كانت حواراتنا دائما معه؛ أنا وحسين ياسين، تتعلق بالمعرفة، وتتسلق شجرة العقل، لترسم طريقا جديدا للتغيير، والنهوض بالعقل العربي، وتنمية مدركات الأجيال الجديدة، لأنهم آخر طلقة لنا لمنع انقراضنا.

عرفته أول ما عرفته في "الأزبكية"، وبين رفوفها الوارفة بالخضرة الإنسانية. عرّفني عليه حسين، كواحد من مؤسسي هذا المشروع، ومن بناته الأساسيين، ورديف مواز له، يسهم ببناء مكتبات صغيرة هنا وهناك، ويتطلع لبناء مكتبة كبيرة نوعية، تحوي أمهات الكتب، وأبرز ما أنجزته العقول البشرية من معارف.

كنا نراه متدفقا وهيو يصعد الدرج، ليطلب ما خبأناه له من كتب جديدة، وحين نزوره في منزله، كنا نسير بين الكتب، كتب في الممرات، في غرفة النوم، في الصالون، على الأدراج، في الحمام.. في المطبخ.. كتب في كل مكان، حتى كراج سيارته، كان محتشدا بالكتب، وكانت يده لا تقصر في منح زائره هدية من هذا الصندوق المعرفي الهائل.

حارس الكتب، وشيخ القراء الذي لم يتوقف للحظة عن ضخ احلامه لصياغة مشروع قرائي عربي، يبدأ من عمان، ولا يتوقف عند نواكشوط بل يتعداه إلى كل بقعة في عالمنا العربي، لتكون القراءة مشروعا تنمويا نهضويا، يخرج بنا من الظلمات إلى النور.

وأن ترحل يا عامر، لا بد من أن تبقى، أن تظل ملهما لنا، محدقا فينا إذا قصرنا عن تتمة حلمك.

فلتحلق روحك بهدوء في مكتبات الله، ولتنم ساعتك هذه قليلا، ستسيقظ ذات صباح، لنرى معا أن عالمنا تغير إلى الأجمل أيها الحبيب.