وضع عربي انتقالي ومتغير

باستحضار بعض من ملامح المشهد المصري المتفاعل على نحو دراماتيكي بالغ السرعة، وما يجري في المحيط كله من حراك وفورات اجتماعية مختلفة، تتجلى صورة العالم العربي في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، في صورة أقرب ما تكون إلى صورة امرأة تأخر حملها كثيراً، ولما شاءت لها الأقدار أن تحمل بعد لأي شديد، تأخر وضع مولودها المنتظر مرة أخرى، فبات ذووها يضعون أيديهم على قلوبهم إشفاقاً عليها وخشية على سلامة جنينها.
وإلى أن تتمخض حالة الغضب المتفاقمة في أكثر من بؤرة واحدة، لا سيما في البؤرة المصرية الكبيرة، عن منقلباتها المفتوحة على كل الاتجاهات، سوف تظل هذه الحالة السياسية الهلامية قابلة للتشكل بحسب الأواني الحافظة لها، وهي أوان مستطرقة في واقع الأمر، وعلى درجة من الهشاشة المفرطة، تجعلها قابلة للكسر بسهولة شديدة، وذات قابلية أشد للتشكل في أطر ودوائر ومستطيلات متباينة، بتباين مقاسات مصالح قوى اجتماعية صاعدة، وسياسية جديدة لا تعريفات مسبقة لها.

اضافة اعلان

ولا يحتاج المراقب الموضوعي لمسار التطورات الجارية في العديد من بؤر التأزم والاشتعال الموزعة على امتداد الخريطة العربية، إلى إعمال العقل كثيراً حتى يرى بأم عينه أن هذه المنطقة الحبلى تاريخياً بالمفاجآت العنيفة والحروب والتطورات الدراماتيكية المباغتة، هي على بعد خطوات قليلة من عتبة مرحلة قد لا تكون امتداداً لما سبقها من مراحل طويلة، ظل فيها العرب يراوحون في أمكنتهم، ويتخبطون في خياراتهم ويقضمون أنفسهم، على نحو أدى إلى كل هذا الانسداد والارتكاس وإلى كل هذا الغضب والاحتقان.

وبتدقيق أكثر في ما يتراءى للبصائر جلياً أكثر مما تراه الأبصار، تتبدى جملة من الإشارات والدلائل والإرهاصات المنذرة في مجموعها بأن ديناميكية قوة القصور الذاتي، التي عملت على إدامة الأوضاع القائمة منذ أمد بعيد، والحفاظ على راهنيتها التي طالت أكثر مما كان مقدراً لها من قبل، قد أخذت في فقدان ما تبقى لها من طاقة داخلية شحيحة، وقوة زخم متآكلة تدريجياً، الأمر الذي أدى إلى كسر التوازنات الهشة، وزعزعة قبضة القوى القديمة على مواصلة الإمساك بالأزمات الموضعية وإدارتها تحت قشرة رقيقة من السكون المراوغة.

وأحسب أن خماسية خبيثة من الأمراض المستعصية، قد تضافرت معاً وعملت على نحو منسق منذ سنوات طويلة، للفتك بالمنظومة السياسية الكلاسيكية المتوارثة، لعل الفقر أولها، والقمع ثانيها، فيما الفساد والإحباط والفشل المتراكم في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية تمثل الثلاثية الأكثر فتكاً في هذه الخماسية، التي بدت كبقعة زيت معدني ثقيل، راحت تنتشر رويداً رويداً على كامل مساحة العباءة الممتدة من الماء إلى الماء.

ولعل هذا التزامن الذي لا يندرج في باب الصدفة الموضوعية، وهذا التتابع المثير لهذه السلسلة من الانفجارات الاجتماعية والمطلبية متفاوتة الحدة، من مغرب العالم العربي إلى مشرقه، تشير إلى درجة كبيرة من الخصائص المشتركة، وتدل على درجة أوسع من الدوافع المتماثلة بين سائر الوحدات والأقاليم، وتنذر في الوقت ذاته بولوج هذه المنطقة بوابة زمن عاصف، قد تكون الفوضى أحد أهم منتجاته الممهدة لسلسلة أخرى من التغيرات المكلفة اقتصادياً بالدرجة الأولى.

وكما يضع المرء يده على قلبه وهو ينتظر على قلق أمام غرفة العمليات مخاض زوجته التي حملت بعد لأي شديد مبتهلاً إلى السماء، ينبغي لكل المخاطبين بهذه التحولات الجارية على امتداد الخريطة العربية حكاماً ومحكومين، أن يضعوا أيديهم معاً، ليس فقط على قلوبهم المثخنة بجراحات نازفة، وإنما كذلك على نبض عروقهم المشدودة، وهم يترقبون بعيون مفتوحة مآلات هذه الفورات ذات النتائج الواعدة بالتغيير المنشود من جهة، والمنذرة أيضاً بمزيد من الانهيارات الذاتية المحتملة من جهة مقابلة.