وقت وأربعة أبعاد

وقت
أمتلك قدرة خرافيّة على الصبر لأنتظر الخل الوفيّ في أيّام الضيق، وقد أواعد العنقاء على فنجان فارغ في مقهى معتم، وربّما أجلس زمناً على طريق ترابي متحدياً مرور الغول.
لا مشكلة لديّ مع الوقت، أصرفه مثل عبث طفل بماء الحديقة، أهدره كما تفعل امرأة أمام المرآة لتؤخّر نهايات الأربعين، أحرقه مثل رجل يدخّن مائة سيجارة لتلمّس النهار. أصفن شهراً أو بعض شهر في طابور النمل إلى ثقب بجوار النافذة، أقف سنة أو بعض سنة على شرفتي لأعدّ سرب ذوات التنانير الخضراء، وأضعتُ عمراً أو بعض عمر في شيء أو لا شيء!
أعصابي باردة مثل ماء الجرّة، بالي طويل مثل خيط الأمل، فلا أضجر ولا يصيبني الملل، رغم أنّي من عشر سنوات أفتح الصفحة السياسية لأقرأ خبر المصالحة بين فتح وحماس، أشاهد آلاف الساعات الإخبارية لأرقب اكتمال ثورة، أستمع منذ العام 1997 لحوار عربيّ معاكس على أمل أن ينتهي بمصافحة. لا شيء ورائي يدفعني إلى الأمام، فمنذ أربعين عاماً أجلسُ على كرسيّ القشّ، أردّ السلام من أربعة مقاطع، وأسأل رفيقي في البلادة عن كلمة ناقصة في الكلمات المتقاطعة لأشهر ساعة في العالم من خمسة حروف!
إذن الوقت متوفر، وفائض في معصمي، لكن أعصابي تتلف، وبالي يهترئ، إن وقفتُ وراء رجل يجهل التعامل مع الصرّاف الآلي!

اضافة اعلان

أربعة أبعاد
صحيح أنّه مهما كبرت شاشة التلفزيون، ومهما أضيف لها أبعاد، ستظلُّ بعيدة عن الواقع، وصحيحٌ أيضاً أنها لا تنفصل عنه. وهناك جمهور، في برامج الحوار مع النجوم، يتكون من ثلاثة إلى أربعة صفوف متدرّجة، له وظيفتان: الضحك والتصفيق. أحياناً يضاف إلى الوظيفة الأخيرة إخراج تيار هواء من الفم يفيد بالانبهار أو هو بديل عصري عن اللازمة الكلثومية التي كانت شائعة في الستينيات "عظمة على عظمة يا ست". ومقابل احمرار الكفوف، وجفاف الفم، تُصرف مكافآت نقدية زهيدة أمام رؤية النجم والظهور على شاشة بأربعة أبعاد.
الجمهور مبرمج على التصفيق قبل الفواصل الإعلانية وبعدها، وحين تقدّم المذيعة النجم بتمهيد مشوّق لا يفاجئ أحداً سوى الجمهور المبرمج أيضاً على الانبهار برؤية "أورانوس" بالعين المجرّدة، يمشي ضاحكاً، ويضع كفيه على صدره تقديراً للحبّ الكبير المتفق على حجمه وحرارته. يضحكُ الجمهور في أول حركة من كفّه، ومع تصفيق قويّ إن قال إن الجوّ حار والإضاءة زائدة، ويوعز المخرج بالانبهار حين يقول النجم إن حكمته "دع الخلق للخالق"، ويشتد التصفيق مع تيارات الهواء إن اعترف "أورانوس" بجرأة إنّه في أيّام وحدته يقلي البيض بالنقانق!
الجمهور ينصرف إلى شؤونه بعد البث المباشر. يندمجون في حركة السير المزدحمة في الاتجاهين، يذهبون إلى أعمالهم الأولى، ويؤدون التزامات اجتماعية ثقيلة، لكنهم يصفقون ويضحكون ويندهشون، وقد يخرجون تيارات هواء من أفواههم، ويحدث هذا خارج شاشة التلفزيون، التي مهما كبرت، ومهما أضيف لها أبعاد لن تستوعب الواقع!