ولادة "قصيدة وطن" رائية العرب

3
3

*الدكتور صالح الطائي

تستوجب كتابة التاريخ الملحمي لأي مرحلة إجراء طقوس تمهد للفكرة، أما كتابة تاريخ حقبة معاصرة فتستوجب أن تكون هناك طرقا فنية مبتكرة وغير تقليدية تتماهى مع انبثاق روح الثورة في النفوس، والاندفاع الجاد من أجل التغيير، وصولا إلى التمرد على كثير من الموروث، واللجوء في بعض الأحيان إلى اتخاذ مواقف غير مسبوقة مع المقدس، ولكن حتى مع ضغوطات أكثر العصور تطورا، عصرنا الحاضر الذي يبدو أنه ألقى حبلها على غاربها ونشر الانفلات بين الجد والفوضى أملا في الوصول إلى نهايات لم يصل إليها أحد من قبل؛ لابد لنا أن نناكف الموروث، نشاكسه، نتجرأ عليه، ونقتنص ونقتبس منه وهجا أو قبسا نرفعه بين أيدينا في مقدمة انبعاث الجماهير لينير دهاليز النفق المظلم الذي نشعر أنه يقيدنا ويشل حراكنا، ولن يتعارض ذلك بالمرة مع تدفق القوى السالبة والموجبة للعصر، فالعصر بحيويته ونضجه وجنونه وفوضويته ودهشته وروعته ورقته وقسوته وغرابته وتشدده وانفلاته؛ يستوعب وشل كل التواريخ، ولا يغص فيه أبدا، طالما أنه يمثل خلاصة كل ما مر على الإنسانية منذ وجودها الأول، ولكن العبث معه لا يخلو من مجازفة فيها الكثير من الخطورة.اضافة اعلان
من هنا، من هذه الحافة الناتئة الجارحة ولد تحدي مشروع "قصيدة وطن" في يوم 2020/1/31، وكان نتيجة صراع انثيالات وتداعيات الأحداث التي أفرزتها منظومة معقدة من المشاكسات المتراكمة التي تسببت بكل ما تتعرض له الأمة اليوم بشكل عام والعراق الجريح المبتلى بشكل خاص على يد بعضٍ من أبنائها وبعض المحسوبين عليها ممن تولوا قسراً أمرها، وعلى يد أعدائها ولاسيما القوى العظمى، وعلى يد جيرانها الذين طمعهم خور الحكام وطيشهم بها؛ بشكل لم تتعرض لها أمةٌ من قبل، ففي مجتمعٍ مثل المجتمع العربي الذي أصيب على مدى القرن الماضي بخيباتٍ مريرة، هذا المجتمع الموحد ـ المتناحر، المتحاب، المتباغض، المتقارب، المتباعد، المجمع، المفرق، الملموم، المشتت؛ صاحب الرأي الواحد.
مُخْتلِف الرؤى والعقائد، المستقر، القلق إلى حد النزق، والثائر، الهادئ إلى حد السكون… هذا المجتمع الذي يشكو ضعف القوة وقوة الضعف، والدكتاتورية المطلقة وندرة وجود القيادة الأمينة الناصحة الإنسانية الوطنية التي تأخذ بيده نحو شاطئ الأمان. في مثل هذا المجتمع الغريب في تكوينه يكاد يكون الحديث عن أمرٍ جمعي مشترك مهما كان بسيطاً، حتى ولو كان على مستوى نظم قصيدة مشتركة أمراً في غاية الخطورة والصعوبة، بل مجرد أضغاثٍ مجنونة ونزقٍ غير موزون، محكومٌ عليه بالخيبةِ والفشلِ والخسران.
ولكن كيفَ للفكرةِ المجنونةِ المشحونةِ بالتحدي الكبير والعناد إلى حد النزق والانفعال أن تهدأ أو تهادن أو لا تتمرد؟ أنى لها أن تنجح وأن تكون مميزة وبمستوى الطموح في عالم مجنون إذا لم تكن بكل هذا الجنون المنبعث من القلوب الحزينة التي آلمها ما آل إليه أمر الأمة، فالجنون يكون أحيانا أعلى مراحل الوعي، وكم توهجت إشراقات الحكمة من دنيا المجانين، فلم لا تشرق من هذه الدنيا قصيدةٌ تُحيي مواتَ قرنٍ من الزمان، وتعيدَ للأمة وهج العمرِ الذي مضى والذي ترك في قلبها أعظم حسرة.
لم تكن ولادة فكرة قصيدة وطن سوى مغامرة غير محسوبة النتائج ولاسيما لمن ينظر إلى حال الأمة وتشظيها وتباعد مكوناتها عن بعضها، ومقدار اللاأبالية التي تتحكم بنفوس أبنائها، وعدم اهتمام أغلبهم بأبعد من حدود واقعه الجغرافي الضيق، بحدوده الوهمية المصطنعة.
كانت فكرةً فيها الكثير من الجُرأة والتحدي للواقع ولكل ما يدور على الساحة العربية ولاسيما أن مكونات الأمة لم تعد تهتمُ ببعضها، وبما يصيب الآخر من أبناء جلدتها وأرومتها، وكل جزء منها يحمل شعار: إذا متُ ظمآنا فلا نزلَ القطرُ.
ومع ذلك راهنتُ على الطيبة السابتة في نفوس أهلنا ولاسيما منهم من يحمل نفساً شفيفة وروحا شفافة وضميراً أخضر وعيناً أبصر وفؤاداً قد من كوثر، وأقصد بهم الشعراء والأدباء، فقررتُ التوجه إليهم بالذات دون غيرهم وأنا لا أملكُ من الأمل سوى بصيصاً خافتاً أحملهُ بين جوانحي كما تحمل الأم وليدها وأسيرُ بهِ في طريقٍ وعرةٍ ورياحٍ عاتيةٍ وأمطارٍ غزيرةٍ؛ ولا أعرفُ متى ينطفئ؛ فلا أُبصرُ لخطواتي موضعا.
كان مفتاحها بيتاً يتيماً قلتهُ بعد أن آلمني ما جاء في نشرات أخبار الظهيرة عن حال الأمة التي تتآكل من الداخل وكأن مرضا خبيثاً تفشى في أوصالها، فباتت طريحة الفوضى، تتلقى الصدمات والطعنات من الخارج والداخل. هذا البيت كان من بحر الوافر وبقافية الراء المضمومة، قلتُ فيه:
حذارِ من الهدوءِ إذا تفشى.. فعندَ الفجرِ قارعةٌ تثورُ
وكنتُ في بداية مشواري أنتظر مشاركة العراقيين من الشعراء؛ للبناء عليه ببيت أو بيتين، طبقاً للنداء الذي توجهتُ به إليهم، وعظيم خوفي كان ألا يستجيبَ منهم أحدٌ، ولكنهم بكل ما لدى العراقيين من نخوةٍ ووطنيةٍ فاجأوني بسيلٍ من الأبياتِ الرائعةِ المفعمةِ بالروحِ الثوريةِ بما يترجمُ حرص العراقيين على وطنهم وحبهم لبلدهم وحلمهم بيومٍ تتحققُ فيه وحدة الأمة.
في هذه الأثناء وردتني مشاركة غير متوقعة من شاعرة سورية، وكانت على مستوى عالٍ من البناء، جعلتني أعيد النظر بالمشروع برمته، فحولته من عراقي المظهر إلى عربي المخبر، وخاطبتُ الشعراء العرب في كل أوطاننا العربية ليسهموا ببناء قصيدة وطن.
تعاضدت أقلام وجهود المبدعين العرب لتدعم هذا المشروع البنائي الوطني الكبير الذي انتهت المشاريع المشابهة له منذ زمنٍ طويل، حتى ما عاد أحدٌ يذكرها إلا ما ندر.
وهكذا ولدتْ قصيدةٌ وطنية من أبدع ما يكون، بهمة شعراء الأمة وفرسان كلمتها، وبهمة الشاعر الكبير الفخر ضياء تريكو صكر لتكون القصيدة الوحيدة التي اشترك بكتابتها هذا العدد الكبير للمرة الأولى في التاريخ.
فكان ما بين مطلع القصيدة وقفلتها ومضةُ إلهامٍ يهمسُ في أذنِ الأثيرِ مخاطباً أمّةً طالت غفوتها، وطالت رقدتها، وبين الغفوة والرقدة كان صدى الفكرةِ يقتحمُ أبواب الضميرِ العربي أينما كان بعفويةِ نقيّةِ، بلا شائبة، ليؤسسَ لفكرةٍ وحدويةٍ ليس لها مثيل، تطاولت حتى علت كل أسس الشقاق، حتّى إذا انبلجَ فجْرُ التحدي؛ أشرقت الحقيقة من بين وجع الأضلع وآهات القلوب وهي أنِ اجتمع العربُ من المحيط إلى الخليج بمـا لم يجتمعوا عليه من قبل، وتوحدّت أقلامهم على أنبل موقف وهو حبّ العــراق. فكانت سابقة متفرّدة في تاريخ الأدب العربي، من هنا جاءت قفلة القصيدة بقلمي أيضا مثلما هو المطلع لتعلن اسم المولود المنتظر الذي ترقب العيون ولادته ألاَ فاحْـذَرْ هدوءً قد تفشّـى غـداةَ الفجْرِ قارعـةٌ تثورُ
فكان مطلع القصيدة وقفلتها خيرَ حاضنٍ لصرحٍ يليق بالوطن، فإذا به العنوان مرسومٌ على جبين الوطن موشى بذهب الوحدة ليعلن عن اسمه بلا خوف في زمن الزيمة والضياع: قصيدة وطن رائية العرب.
وقد صدرت القصيدة في طبعتها الأولى بكتاب جميل عن دار الوطن للطباعة والنشر في المملكة المغربية، فضلا عن ذلك صدرت عن دار المتن في بغداد بطبعة ثانية لتكون في متناول يد عشاقها. والجدير بالذكر ان 3 شعراء من الأردن شاركوا بهذه الملحمة.