"ولتأطرنه على الحق أطرا"

د. محمد المجالي

يفرق الإسلام بين الأمة الحية الواعية العزيزة المؤدية واجباتها، أفرادًا وجماعات، والأخرى الميتة الغارقة في شهواتها الواقعة في ظلم نفسها بالمعاصي، اللامبالية بكرامتها أو على الأقل المترددة في مباشرة واجباتها الحضارية، وأقلها تفقد مواقع الخلل وتأدية واجب النصح، وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي عده بعض علماء الإسلام ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، وذلك لأهميته وضرورته، باعتبار طبيعة البشر المائلة إلى الخطأ والخطيئة، ووجود شيطان أمهله الله إلى يوم القيامة ابتلاء للبشر، ووجود دنيا شأنها أنها مزيَّنة بشهواتها المتنوعة فتنة للناس أيضًا.اضافة اعلان
أزعم أن ضعف الأمم له علاقة مباشرة بغيابها عن مشهد الإصلاح، ولا داعي أن تكون القوة مادية فحسب، بل الأهم القوة المجتمعية المنبئة عن تماسك المجتمع وأفراده وتعاونهم وتآلفهم، وهذه هي التي تجلب لأي مجتمع الحد الأدنى من القوة المادية التي يحسب لها ألف حساب، ولعل ضرب مثل بيت العنكبوت في القرآن أنه أوهن البيوت للوهن الداخلي الموجود في علاقات مجتمعه، بينما نجد النمل والنحل في قوة وتماسك نتيجة التعاون بين أفراد مجتمعه، أمثلة لم تأت في القرآن سدى، بل مطلوب منا التمعن فيها ودراسة حالاتها: عملاً وطاعة وتعاونًا ونصحًا.
ولنا أن نسأل أنفسنا: ما أسباب تردي الأمة الإسلامية عبر التاريخ؟ متى تعرضت لهجمة الصليبيين والتتار والاستعمار الحديث والاستعمار الحالي في أكثر من بلد إسلامي بصورة وصاية علينا؟ لعل الجواب واضح أن الأمة كانت ضعيفة في ولائها لله تعالى من جهة، وفي التزامها العام من جهة أخرى، وفي تفكك بنيانها من جهة ثالثة، كانت متناثرة الولاء فغزاها الصليبيون، وتاهت في المعاصي لدرجة أن ذهبت هيبتها وبلغت درجة في الخسة نادرة فغزاها التتار، وضاعت أندلسنا بسبب خلافات بين إخوة باعوا أنفسهم لأولياء من دون المؤمنين، وفي الحاضر تكرر المشهد حين دب الضعف في أوصال الدولة الإسلامية، ووالى بعض أفرادها قوى استعمارية أخرى، وانتشرت المعاصي المذهبة لهيبة الإنسان والمجتمع، وضاعت فلسطين واستُعمرت الأمة كاملة، وذهب الاستعمار وبقيت تبعاته وآثاره، كل ذلك على حين غفلة من الشعوب أن تدرك قيمتها الحقيقية وتنتزع حقوقها الإنسانية وحريتها وتقرير مصيرها، تاهت بين استعمار أجنبي رحل، وآخر من ذوي القربى ربما أذلها أكثر من الاستعمار الخارجي نفسه.
وهناك تيه آخر اختلط على العلماء والعامة معًا، وهو التوفيق بين واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة، وبين الصبر على الظلم من جهة أخرى، وهذا التيه والخلط أديا إما إلى تغليب جانب الصبر بل قولوا الجبن الذي شجع الظالم على ظلمه واستعباد شعبه، وإما إلى تغليب جانب النصح ليصل إلى استخدام القوة مما أدى بالطرف الآخر إلى القسوة على الناس ومن ثم استذلال العباد، وفي كلٍ شرٌ مستطير.
الصبر مطلوب ولكن ليس إلى درجة ترك الباطل يسرح ويمرح ويعتدي، والنصح مطلوب بمعانيه العامة ولكن بضوابط وضعها العلماء حتى لا ينقلب إلى ضده، وهنا تبرز حاجة الأمة إلى المجتمع الواعي الذي يرجع إلى علماء أنقياء أتقياء، عالمين عاملين، يثق الناس بهم ويتخذونهم قدوة لا يترددون بعدها في اتباعهم، هذا هو المجتمع الحي الواعي الحريص على تماسكه وقوته، ولن تكون مآلاته إلا إلى قوة وحضارة.
وفي هذا الصدد أتذكر قوله صلى الله عليه وسلم وهو يعظ أمته في شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتأطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ"، وفي رواية أخرى: "إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ تلا قوله تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)"، سورة( المائدة) ثُمَّ قَالَ: كَلا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا".
وهنا بيت القصيد، في استشعار المسؤولية تجاه النفس والمجتمع، حيث الفرد الواعي والأمة الواعية الحية، ولنتذكر حديث السفينة الذي شبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمعَ بالسفينة، وأنّ أي خرق فيها من أي غافل سيغرقها كلها ويغرق المجتمع كله في الهلاك، فلا بد من الأخذ على أيدي هؤلاء الذين ربما فعلوا ما فعلوه من حسن ظن كما قالوا "لو أنا خرقنا خرقًا في جهتنا ولم نؤذ من فوقنا"، فلا بد من النظر إلى مصلحة المجتمع والأمة لا إلى مصالح أفراد أو فئات من المجتمع.
هذه العبارات منه صلى الله عليه وسلم -الذي لا ينطق عن الهوى- تشعرنا جميعًا بمسؤولياتنا، وتشير (ولتأطرنه، لتقصرنه) إلى صحوة وحرص ووعي لمحاصرة الظلم والظالمين ابتداء حتى لا ينتشر شرهم على حين غفلة وغفوة، لو كانت الأمة هكذا لما بلغ الظلم ما بلغه في بلداننا العربية من استذلال الشعوب على أيدي جلاديها ليبدو الاستعمار الأجنبي أرحم وأرق من بني جلدتنا.
والحمد لله على كل حال، ولكن الأهم أن تأخذ الأمة العبرة؛ أن تبقى متيقظة حريصة على دعائم قوتها الحقيقية، وأن لا رجعة إلى زمن الذل الذي عاشته، وهي الآن تدفع أغلى ما عندها في سبيل استرداد كرامتها وحريتها، ولعل ذلك مقدمة لنهضة عربية إسلامية لن يكون أمرها إلا خيرًا على البشرية كلها إن شاء الله تعالى.


*عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية