"ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"

د. محمد خازر المجالي

لم يحشد الله آيات متحدثة عن تقواه سبحانه، كما هو الأمر في سورة الطلاق ذات الاثنتي عشرة آية، حيث ذكر الله التقوى خمس مرات؛ في أولها: "... وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ..." (الآية 1)، وبعدها: "... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ..." (الآيتان 2 و3)، وبعدها: "... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" (الآية 4)، وبعدها: "... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا" (الآية 5)، وقبل نهايتها: "... فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا" (الآية 10).اضافة اعلان
ومع هذا الحشد من آيات التقوى، هناك نداءات وتوجيهات عجيبة مثل: "... وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا" (الآية 1)، و"... وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ..." (الآية 2)، و"... لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا" (الآية 7).
إنها سورة الطلاق المخصصة لموضوع الطلاق، والتي أطلق عليها بعض العلماء اسم "النساء الصغرى"، لاختصاصها ببعض أحكام النساء؛ من العدة والإنفاق والسكنى. وفي آخرها يحذر الله تعالى من مصير بعض القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله فذاقت العذاب. وفي آخر آية يُظهر الله تعالى بعض مظاهر قدرته، حيث خلق السماوات والأرض، وسعة قدرته وعلمه، فلا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، سبحانه.
أتساءل، لِمَ كل هذا الحشد في موضوع التقوى في سورة الطلاق؟ أما كان يكفي أن تفتتح بالأمر بتقواه سبحانه كما هو الشأن في بعض السور؟ والجواب أنه تعالى قصد ذلك مع هذا الموضوع بالذات؛ فلا بد من استحضار تقواه سبحانه. فالتقوى ضمانة لاستقرار المجتمعات، فضلا عن أهميتها في ارتقاء الإنسان نفسه مع ربه، فمخافته تعالى تدعوه في نفسه لتعظيم حقوقه تعالى، ومن ناحية أخرى تدعوه ليكون مستقيما، بعيدا عن الإضرار بغيره، وهو شعور راق حين يفكر أحدنا بغيره لا بمجرد نفسه، وتهمه أمور المجتمع لا مجرد حقوقه ومصالحه. وفي هذا نقلة حضارية هائلة؛ أن أعيش لأمتي ولبني جنسي لا لمجرد تحقيق مصالحي الخاصة.
وكأني بهذه الآيات الحاثة على التقوى تقول لأحدنا: إياك والتسرع والظلم والتجبر، إنها زوجتك، وأنت صاحب الشأن والقوامة، بإمكانك أن تجتهد وتأخذ بالأسباب كلها لتحصين بيتك وزوجك وأولادك، وأهم عامل في هذا هو التقوى، فلها آثارها التي لا تخطر على البال، حين تثق بربك وتتوكل عليه وحده سبحانه.
فأول توجيه هو عام بتقواه سبحانه، والثاني فيه شرط، من يتق الله يجعل له مخرجا من كل شيء، وزيادة على ذلك أنه يرزقه من حيث لا يحتسب، والثالث جاء معه أن من يتقيه يجعل له من أمره يسرا، والرابع أن من اتقاه يكفّر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، والأخير عام قرنه بأولي الألباب الذين آمنوا. وكلها توجيهات فيها طمأنينة ونقلة روحية هائلة، حين يضع أحدنا ثقته بالله أن يصلح الحال، ويبعد الوساوس التي من شأنها الإضرار بالأسرة والمجتمع.
ومن جهة أخرى، فلو وقع الطلاق فهي توجيهات أيضا بأن تُعطى الحقوق ولا يبخس منها شيئا. وكما بينت الآيات، فهي أمور مادية في السكنى والنفقة. وهناك ما هو أهم منها؛ هذه الرعاية التي ربما تعيد الدفء إلى العلاقة، ويجبر الكسر الذي كان، وتلتئم الأسرة بعد ضياع. فالإسلام يدعو إلى التماسك والانتباه إلى ما هو أبعد من مجرد حياة دنيا، فالنظر متوجه هناك إلى جنة عرضها السماوات والأرض. ولا يعني هذا إهمال الدنيا والحقوق بأنواعها، فهي أمور مرتبطة ببعضها، ولعل موقعي في الآخرة مبني على موقعي وعملي وتقواي لله تعالى في هذه الدار، حيث العمل، وهناك الجزاء.
كنت أستغرب من وجود آية الحث على المحافظة على الصلوات: "حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ" (البقرة، الآية 238) كيف جاءت بين آيات الطلاق في السورة، ما الغاية منها؟ وأجزم بأن الأمر مرتبط بأن يرتقي الإنسان ويرتفع عن سفاسف الأمور، فالصلاة تزيده روحانية ومشاعر إيمانية تدعوه إلى تقوى ربما تردعه عن التهاون في حقوق الناس، خاصة هذه المرأة التي غالبا هي ضعيفة. ومن جهة أخرى أن يذهب المسلم إلى بيوت الله ويتعرف على الناس، فإن كانت عندك مصيبة فربما عند غيرك أعظم منها، وعندها يتبصّر بنفسه أكثر، ويعقل أكثر، وينظر بمنظار العقل والعاطفة معا، فللصلاة آثارها العظيمة في ارتقاء النفوس وتقواها.
ولا أريد أن يُفهم من كلامي أن الإسلام يمنع الطلاق، فهو الحل النهائي إن استحالت الحياة بين الزوجين، ولكن لا بد من تفكير بمآلات الأمور، خاصة إن كان هناك أولاد مصيرهم سيكون غالبا الضياع والتشتت، وبهذا نسهم في وجود خلل مجتمعي، فالأمر بحاجة إلى تقوى.
هو الإسلام العظيم الذي أعطى هذه المنزلة العالية للمرأة تكريما وحقوقا، وهو الذي يوجه بطريقة مباشرة وغير مباشرة في استقرار المجتمع ونمائه، فعظّم الحقوق وأمر بتقواه سبحانه. ومن ناحية أخرى، هناك ما ينبغي على أحدنا استشعاره في المعاملة، أن يعامِل كما يحب أن يعامَل، فإن اعتديت على حقوق الآخرين في موضوع العلاقات الزوجية مثلا، فاعلم أن لك بنتا أو أختا ربما يصيبها ما تفعله أنت مع الآخرين، فاحرص على الاستقامة والتقوى، حتى تسير الأمور في أحسن حال.
يا لها من أمور لو تفكرنا فيها ما أجملها؛ أن يجعل الله لي مخرجا، ويرزقني من حيث لا أحتسب، وأن يجعل لي من أمري يسرا، وأن يكفّر سيئاتي ويعظم أجري. كلنا نتوق إليها، وهي مرتبطة بالتقوى، حيث مخافته تعالى من جهة، وحبه والأُنس به من جهة أخرى، شعور بمعية الله تغنيك عمن سواه، فاجعل ثقتك به قوية، وصلتك به شديدة.