وهم الخلاص الفردي

يمكنك ان تقرأ في اليوم الواحد عشرات الصحف العربية، تستعرض من خلالها مئات النصوص جميعها تنهل من بئر واحدة تنشر مسحة من التشاؤم والخيبة وتوطن عن قصد أو غير قصد روح الاستكانة والإحساس بالفوات وبالمسافات البعيدة التي لا يمكن اللحاق بها، وهو الأمر الذي لا يكتفي بالسياسة بل يتكرر في مختلف مجالات وميادين إنتاج الثقافة من أدب وفكر ومعرفة، ولعل هذه الروح السوداء هي التي تحتل اليوم المكان الموضوعي للفكـر النقدي الغائب، حينما استبدل بأدوات النعي والقنوط والكآبـة.اضافة اعلان
يزداد شعور الفرد بالرغبة في الانسحاب من الجماعة والبحث عن الخلاص الفردي، فالاتهام أرحب ما يكون وأكثر أمناً حينما يتوجه للذات الجمعية، للمستقبل والحاضر والماضي للتاريخ والجغرافيا للمكان والناس والأجيال والشيوخ والأطفال للمقدس والمدنس، وللمباح والحرام، للحرية والعبودية، أولئك في العقلية الاتهامية يحملون كل الآثام والأوزار وكل السوء والشرور، وهم بتلك الصيغة يتحملون مسؤولية الفوات والتأخر ومسؤولية إعاقة حركة التاريخ والتاريخ ذاته في حقل الموت المجاني حقل الاتهام الأكبر الذي تحول إلى جسد مثخن بالأوهام والأحاجي والألغاز، والإنسان فيه هو الفاعل الملغي في التاريخ بفعل الاتهام والسخرية اللذين حدا من قدرته على المبادرة، أو وضع إمكانياته موضع الاختيار، أما الهوية فهي لعبة الاختلاق الأولى والإحساس المستمر بدونية البعض عن البعض الآخر، والمجتمع هو الشيطان الرجيم الذي يحمل كل الشرور ويمكن لأي متسول على بضائع الاتهام أن يلقي ما يشاء على شرفة الجريح.
أحجية تاريخ الاضطهاد الاجتماعي تبدو في العزلة الكئيبة والتحالفات وعلاقات الدم المريبة بين السياسي والمتدين من جهة والوكلاء والسوق من جهة أخرى، والكل يدور حول فكرة الغنيمة، يحدث ذلك في مجتمعات ما تزال تنتظر كلاماً لم يقل بعد عن أحداث في ذمة التاريخ، وما تزال تشتاق الى قول أشياء جديدة حول نصوص عتيقة، هنا يأخذ خط التاريخ لوناً باهتاً كلما ازداد اضطراب التقدم في الزمن وتأخذ عرائش وخرائب وحالات احتضار ونزيف في النمو المتسارع نحو جهة غامضة وغايات مجهولة ودروب لم تعبد.
لقد عمل الشعور الحاد بالتراجع إلى جانب اليقين المفرط بالقدرة على الصعود على اكتمال حلقات الوهم أحياناً بإسدال الستائر بيننا وبين العالم، وأحياناً بالإيهام بأن محطات التراجع وثبات نهضوية، وأحياناً بإثراء المتخيّل بأوهام سرقة أزمنة الآخرين.
ثمة لون من الوعي الباهت الذي ينمو في أوقات العسرة وفي كنف المواجهات البائسة للأعاصير والمحن،هذا الوعي الباهت يتجاوز التقاط المفاتيح الأولى إلى إغلاق كل الأقفال تحت وطأة الخلاف حول التراث والآخر والدولة وينفي الهوية في سعيه لنفي الجهات والأسماء والأشياء بالهجرة نحو أزمنة غامضة ومثيرة للريبة.
لم تشهد الكينونة التاريخية العربية في جذرها البعيد على مستوى المعرفة والأسطورة والتاريخ ألوان جنون المستبد التي شهدتها جهات العالم المختلفة، فلم تظهر في الشرق العربي شخصية المتأله، ولم تماثل الأساطير العربية القديمة في مضامينها ما حملته الأساطير الأخرى من شطط المستبد وهيمنته، منذ أساطير الفراعنة الى أساطير بني إسرائيل وحكاية الوصايا العشر وبطش الآلهة في (الإلياذة) وصيفة مانو الملك والقانون في الحضارة الهندية القديمة أو شخصية المستبد الديني في شخص البابا (انوسنت الثالث) صاحب أول حملة صليبية على الغرب نفسه وصاحب ومنفذ فكرة محاكم التفتيش التي أوصلها حد التفتيش في ضمائر الناس ونواياهم، وعلى الرغم من ذلك كله فالاستبداد يتسلل من كل جيوب الواقع وأقسى حينما تتحول ماكينة الخلاص الجماعي التي صاغتها أجيال الى آلة تعمل دون كلل من اجل غاية واحدة الخلاص الفردي.