"ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا"

20190708T135715-1562583435057577900
20190708T135715-1562583435057577900

د. محمد المجالي

هي الحقيقة التي ينبغي على كل عاقل أن يدركها، أن هذه الدنيا ممر، والآخرة هي دار القرار، فالدنيا دار ابتلاء وتكليف وسعي ومشقة ونكد وكدر، والسعيد الحقيقي فيها من كان قلبه مطمئنا ساكنا راضيا بالله سبحانه، يستشعر معيته ولطفه، يسعى ما استطاع إلى فعل ما أمر واجتناب ما نهى، ورغم ما يواجهه في دنياه يسلي نفسه أنها دنيا فانية، وبعدها حياة باقية، فالموت حق، والقبر حق، والبعث حق، والحشر والموقف والحساب والميزان والصراط والجنة والنار كل ذلك حق، والمصير حسبما قدّمت أيها الإنسان، ولا يظلم ربك أحدا: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".اضافة اعلان
أكثر ما يصد الناس عن اتباع الهدى هما الشبهات والشهوات، الشبهات في الفكر والمعتقد، والشهوات هي المتعة بأنواعها، وهنا يكون الحال لهوا ولعبا، ويبدأ الفرد بالابتعاد شيئا فشيئا عن الفطرة والجادة، يعينه رفقاء السوء أو البيئة الساذجة، ويبقى نور الفطرة يذكره ويلومه، فإن رجع وانتبه وتذكر فبها، وإلا ازداد سوءًا وابتعادا، وربما كفرا وإصرارا على الخطأ، بل ربما يرى المنكر معروفا والمعروف منكرا، بل ربما يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
الإنسان بسيط ضعيف عجول جهول مجادل، وذكر الله عنه هذه الصفات وغيرها لنراعيها، ولذلك كان لا بد من أن تكون الرسالة إلهية لا بشرية، وإلا شرّع البشر لأنفسهم ما ينصبغ بطبائعهم البشرية، وهي في العموم ناقصة، فلله المثل الأعلى، أكمل دينه وأتم به علينا النعمة، ورضي الإسلام لنا دينا.
حدد الله المنهج، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وتكامل القرآن مع السنة في شمول مناحي الحياة كلها، القرآن يفصل أحيانا ويؤصل أخرى، وما لم يفصله القرآن فالسنة الصحيحة تفصله، وما لم يُفصّل فيهما فعن قصد، لأنها أحكام مرنة تُرِك أمرها لعلماء زمانها، يكيّفونها مع الواقع فهو الاجتهاد الذي فُتح بابه بشروط حتى لا يكون الدين ألعوبة، وليكن العلماء الربانيون مرجعا بعد الرسل، فهم ورثة الأنبياء.
وبعد هذا الإتمام لإطار الدين العام، لا يبقى للعاقل أي عذر في تنكب الطريق المستقيم، فجاءت هذه الآية لتبين موقفا من مواقف القيامة، حين يكون الحساب والميزان وتتطاير الصحف، ويوقن أحدنا بالحقيقة التي لطالما حاولنا التهرب منها واستبعادها واللهو عنها، حينها يقول وقد عض يديه ندما وحسرة: "يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، وكان الشيطان للإنسان خذولا"، نعم، هي الحسرة والندامة، على ما فرّط الإنسان في حق الله تعالى، وتذكر الآيات رفيق السوء الذي يتخذه أحدنا أحيانا خليلا، وتذكر أيضا الشيطان الذي لا يدع الإنسان إلا ويوسوس له عمل السوء، ويحاول صده عن سبيل الله، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وتكمل الآيات التي هي من سورة الفرقان، وللاسم دلالته، فالفرقان اسم من أسماء القرآن، فرق بين حق وباطل، فصاحب القرآن تتشكل عنده رؤية واضحة تفرق بين خير وشر، حق وباطل، فلا تنطلي عليه الشبهات ولا الأهواء، فالصورة نقية ناصعة، والمنهج مستقيم لا اعوجاج فيه، فتأتي الآيات لتكمل العلاج، حيث القرآن الذي ينبغي أن يكون منهجا ودليلا، يقول الله بعد تلك الآيات: "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا"، وهو هنا إما أنه يتحدث عن قومه الذين عاصروه بأنهم تركوا الهدى وهم يعلمون أنه صادق فيما جاءهم به، وإما أنه سبحانه يخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، عما يكون في أزمنة قادمة من هجران المسلم للقرآن، ومن هنا خاض العلماء في موضوع تعهّد القرآن، ومتى يكون أحدنا هاجرا له، خلاف ليس موضعه هنا، ولكن المهم هو الإشارة إلى أن يتعلق المؤمن بالقرآن، تلاوة وتدبرا وعملا.
ليس عبثا أن يأتي في السورة نفسها في آخرها أوصاف لعباد الرحمن، سلوكا وعبادة وتعظيما لله وشعائره، ودعاءً لله مشعرا بنيلهم رحمته، فهو الذي نسبهم ابتداء إلى رحمته (وعباد الرحمن)، فرحمته أوسع من سخطه وغضبه، وسعت كل شيء، لكنه كتبها للمتقين الذين يحسبون لهذه الحياة حسابها، ويعتقدون جازمين أنهم ملاقوه سبحانه.
حفلت السورة أيضا بمواقف الاستهزاء من الرسل عموما، ومحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا، ولا شك أن أتباع الرسول أيضا مقصودون بهذا الشيء، فدأب أهل الباطل أنهم يستهزؤون من أهل الحق، وهذا من لوازم الدنيا والابتلاء، وفي النهاية لا بد من انتصار الحق: "وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا".
هي دعوة لكل إنسان، أنى كان توجهه واعتقاده، أن يفكر تفكيرا سليما في واقع نفسه، وفي حقيقة الحياة، هو يودع كل فترة أحد الأشخاص من هذه الدنيا، فليفكر: أين يذهبون؟ وهل من لقاء معهم يوما ما؟ وما طبيعة هذه الحياة؟ هل ينتهي كل شيء هنا؟ أم أن هناك حياة أخرى حتمية، ليتحقق العدل على الأقل، فهذا ضعيف وذاك قوي، أو فقير وغني، أو مظلوم وظالم، أو شقي وسعيد، ولا بد من عدل، مما يؤكد حتمية وجود يوم آخر.
ونسأل الملحدين المنكرين للإله، والمستبعدين وجود آخرة، هل من تمام الحياة العادلة في الدنيا أن يهرب الظالم مثلا ولا يُقتَص منه؟ فكيف يكون ذلك لتستقيم الحياة، فضلا عن السؤال المهم الذي لا يحتاج مزيد تفكير، في دقة وروعة الخلق، فهل وُجد هكذا صدفة بلا موجد، أو أوجد نفسه؟ فلينظر أحدنا في نفسه وفي الآفاق، حتى يتبين له أن للخلق خالق، ولا بد أن يكون واحدا.
لنتدارك أنفسنا وعيا والتزاما وإنابة وتوبة، حتى لا يكون الندم، ولات حين ندم يوم تغرغر الروح بلا موعد مسبق، فاللهم لطفك وتأييدك ورحمتك.