"يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا"

د. محمد المجالي

هذا هو القرآن في توجيهاته الجادة الواقعية، حين يأمر المؤمنين بالحذر، فلا يكون هذا سببا في تقاعسهم وتخاذلهم ويأسهم، بل هو الحذر الإيجابي الذي يرافقه عمل، فالأصل الانطلاق، ومع الانطلاق حذر وانتباه وفهم وتقدير للأمور وترتيب للأولويات وحسن تخطيط، لا بأن تسيّرنا العواطف والأمنيات والهوى وتبعاته، فنحن أتباع دين، ونتعبد الله تعالى بالغايات والوسائل معا، فينبغي أن يكون شأننا خالصا لله تعالى، ابتغاء الفلاح في الدنيا والآخرة.اضافة اعلان
إن الإسلام منظومة متكاملة من العقيدة والشريعة والأخلاق، وما يميز المسلم الملتزم عن غيره أنه يتحرى في كل قول وفعل أن يكونا وفق ما أراده الله تعالى، مما جاء في القرآن أو في سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجزم بأن الخلل الذي نراه في تصرفات بعض المسلمين إنما هو ناتج عن اضطراب المفاهيم في عقول هؤلاء، نتيجة جهلهم أو تهورهم أو توجيههم من قِبَل متهورين، ويُحْسب الأمر في النهاية –للأسف- على الإسلام نفسه.
يكتب أحد المنتقدين للإسلام بأنه لماذا ننتقد الجماعات الإرهابية والدين نفسه موجود وهو الذي يوجههم لمثل هذه التصرفات؟ وهنا مكمن الخطر في خلط المفاهيم وتشوّه الصورة وعدم الاستعداد للفهم ابتداء، فما مشكلة الدين –أي دين- والنص –أي نص- إن كان من يفهمه قد أخطأ في فهمه، وربما تعمد أن يفهمه خطأ!؟
ولا بد أن أشير هنا إلى أن بعض عبارات المنتقدين للدين وآرائهم ربما تسهم في إقناع المتشددين بصحة منهجهم، ومن هنا فلا بد أن نحسب حسابا لكل كلمة وموقف وتصريح، وأن ننظر في لب المشكلة، وأن نعالج المرض لا العرَض، وإلا فنحن نضيع الوقت، وحينها يتسع الخرق على الراقع.
لا بد من أخذ الحذر فنحسن خطابنا ونرتب علاقاتنا وأولوياتنا، وننطلق راشدين متوكلين في شأننا كله، دعوة والتزاما وأداء لواجبات ووفاء بحقوق وحسن معاملة، فلا يجرمننا شنآن قوم على أن لا نعدل، ولا يستفزنا رأي بأن نخرج عن أدب الإسلام، ولنستشعر أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فالتقوى والإحسان مجلبة لمعية الله تعالى، وهما موجِّهان للإنسان بأن يتقن ويفهم ويعمل كما يريد ربه منه.
يخطئ كثيرون حين يظنون أن الحذر قعود وتراجع، والدليل على خطئهم هو النص القرآني نفسه حين جمع بين الحذر والنفير، صحيح إن الانحناء للعاصفة رشد وفهم، ولكنه مؤقت ولا بد بعدها من الانطلاق. ولا أريد أن يفهم بعضنا أن النفير مرتبط بالجهاد فقط، بل في عمل الخير كله، فكما قال الله تعالى: "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله.." قال: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين"، فهو حركة كاملة من أجل دين الله، ولو في أبسط أعمال الخير.
لا أبالغ إن قلت إن معظم مصائبنا من صنع أيدينا، ولا يلغي هذا أن لنا أعداء يمكرون بنا، ويدفعوننا باتجاه الخطأ، ولكن المشكلة أن عندنا هذه القابلية للاستجابة لهم، وللجنوح إلى الخطأ، حتى الشيطان يتبرأ منا يوم القيامة ويعلن أنْ لا سلطان له علينا، وإنما أمره أن دعانا فاستجبنا له: "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان ليَ عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم...".
إننا في زمن تُقلب فيه الحقائق، يُتّهم البريء ويُبرّأ الجاني، وأغرب ما في الأمر أن توجّه السهام كلها للإسلام، ولا يدافع عنه إلا القليل، بل أقنعنا أنفسنا بأن الإسلام فعلا هو مشكلة إذ يحث على الإرهاب ويوجه الإرهابيين، ونسي العالم أن الإرهاب هو أقرب لأولئك، فهم الذين قتلوا وسفكوا الدماء وانتهكوا الحرمات..، وأوصلونا إلى قناعات جديدة في مفاهيم الكراهية والانتقام، ونراهم اليوم يخلطون الأوراق وتحكمهم ازدواجية المعايير، وحينها يغيب المنطق والعدالة، فلا نتوقع إلا مزيدا من الاضطراب العالمي.
ما عرَف الإسلام في تاريخه لغة الغدر والتمثيل والحقد والقتل العشوائي كما فعل ويفعل غير المسلمين، ولا أبرّئ بعض المنتمين إلى الإسلام من هذا الفعل أيضا حين يسيطر عليهم الجهل والتهوّر والعاطفة، فليحذر أحدُنا أن يكون طُعْما لأعدائنا الذين اتخذوا وسائل جديدة في حرب الإسلام فيما يسمى (حرب الإسلام بالإسلام)، فقد قالوها صراحة، ونحن وقود هذه العداوة، لنسهم بأيدينا في تشويه صورة الإسلام العظيم.
رسالة إلى الشباب على وجه التحديد: الفهم الفهم أيها الشباب، وإياكم والانضواء تحت رايات عُمِّية لا تدرون مَن أسّسها وما هي أهدافها، فالشعارات وحدها لا تكفي، فقد بنى منافقون مسجدا أمر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بهدمه وسمّاه مسجد الضرار، وإنّ شِدّة وطأة أعدائنا علينا لا نقابلها بالتصرفات اللامسؤولة، بل علينا أن نراجع أنفسنا، فالداء فينا، وغلبة أعدائنا لنا بسبب منا، والنص القرآني واضح في هذا: "إن تنصروا الله ينصركم"، "ولينصرن الله من ينصره" دون أدنى إشارة إلى الأعداء.
نحن مطالبون جميعا، علماء وطلبة علم ودعاة ومفكرين أن نتحرك بالوعي والفهم الذي ينبغي أن يسود واقعنا، لا ردات الأفعال ولا التهديد ولا القتل العشوائي، صحيح أننا نحن الضحايا، ولكن بما كسبت أيدينا من الفرقة والبأس الشديد بيننا، وعلينا التفريق بين الشعوب الغربية وأنظمتها، فالشعوب في الغالب محايدة بل لا يعلمون الحقيقة، لعب بهم الإعلام وحذرهم منا، في مسلسل ما يعرف بالفوبيا.
إن الثقة والوعي والعمل الصحيح والوسائل الصحيحة كل ذلك مطلوب، وعلينا أن نفرق بين الحذر والجبن، وبين الشجاعة والتهور، فبينها حد بسيط، وبعد ذلك التوكل على الله تعالى، فلسنا أكثر غيرة منه على هذه الدماء والأعراض والقهر، وهو حسبنا ونعم الوكيل.