يجب حل الأزمة السورية في مجلس الأمن

الحرب حولت حمص في سورية إلى مدينة أشباح -(أرشيفية)
الحرب حولت حمص في سورية إلى مدينة أشباح -(أرشيفية)

جيفري د. ساش*

نيويورك- لا يشكل سفك الدماء المتواصل في سورية الكارثة الإنسانية الأعظم على الإطلاق في العالم اليوم فقط، بل إنه يشكل أيضاً أحد أعظم المخاطر الجيوسياسية التي يواجهها هذا العالم. ومن الواضح أن النهج الحالي الذي تتبناه الولايات المتحدة -خوض حرب على جبهتين ضد تنظيم الدولة الإسلامية ونظام الرئيس بشار الأسد- فشل فشلاً ذريعاً. ولذلك، لا بد أن يمر أي حل للأزمة السورية، بما في ذلك أزمة اللاجئين المتنامية في أوروبا، عبر أروقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.اضافة اعلان
تمتد جذور استراتيجية الولايات المتحدة في سورية إلى ذلك الاتحاد الغريب -وغير الناجح- بين مصدرين من مصادر السياسة الخارجية الأميركية. أحدهما يشمل المؤسسة الأمنية الأميركية، بما في ذلك المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات، وأنصارها المخلصين في الكونغرس. وينشأ المصدر الثاني من مجتمع حقوق الإنسان. وكان هذا الاندماج الغريب واضحاً في العديد من الحروب الأخيرة التي خاضتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأفريقيا. لكن المؤسف هو أن نتائج هذا النهج كانت مدمرة على الدوام.
تأتي تحركات المؤسسة الأمنية مدفوعة باعتماد صناع السياسة في الولايات المتحدة منذ أمد بعيد على القوة العسكرية والعمليات السرية للإطاحة بالأنظمة التي يُنظر إليها على أنها ضارة بالمصالح الأميركية. فمن الإطاحة بحكومة محمد مصدق المنتخبة ديمقراطياً في إيران العام 1953، إلى 11 أيلول (سبتمبر) الآخر (الانقلاب العسكري الذي دعمته الولايات المتحدة في العام 1973 ضد الرئيس سلفادور أليندي المنتخب ديمقراطياً في تشيلي)، إلى أفغانستان، والعراق، وليبيا، والآن سورية، كان تغيير الأنظمة بمثابة حجر الزاوية في عالم السياسة الأمنية في الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، دعمت أجزاء من مجتمع حقوق الإنسان التدخلات العسكرية الأميركية الأخيرة استناداً إلى مبدأ "المسؤولية عن الحماية". وينص هذا المبدأ الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع في العام 2005 على أن المجتمع الدولي ملزم بالتدخل لحماية السكان المدنيين الذين يتعرضون لهجوم واسع النطاق من حكوماتهم. وفي مواجهة وحشية صدّام حسين، ومعمر القذافي، وبشار الأسد، قرر بعض المدافعين عن حقوق الإنسان توحيد قضيتهم مع المؤسسة الأمنية الأميركية، في حين زعمت الصين وروسيا وغيرهما أن مبدأ المسؤولية عن الحماية تحول إلى ذريعة لتغيير الأنظمة بقيادة الولايات المتحدة.
لكن المشكلة، كما كان يجب على المدافعين عن حقوق الإنسان أن يدركوا منذ زمن بعيد، هي أن نموذج تغيير الأنظمة الذي تتبناه المؤسسة الأمنية الأميركية غير ناجح. ذلك أن ما يبدو وكأنه "حل سريع" لحماية السكان المحليين ومصالح الولايات المتحدة يفضي غالباً إلى الفوضى وانعدام الشرعية، والحرب الأهلية، والأزمات الإنسانية المتنامية، كما حدث في أفغانستان، والعراق، وليبيا، والآن سورية. وتتضاعف مخاطر الفشل عندما لا يدعم مجلس الأمن الدولي ككل الجزء العسكري من التدخل.
بوسعنا أيضاً أن نتتبع جذور تدخل الولايات المتحدة في سورية إلى القرارات التي اتخذتها المؤسسة الأمنية الأميركية قبل ربع قرن من الزمن بإسقاط الأنظمة التي كان يدعمها الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط. وكما أوضح وكيل وزارة الدفاع آنذاك، بول وولفويتز، للجنرال ويسلي كلارك في العام 1991: "لقد تعلمنا أننا قادرون على التدخل عسكرياً في المنطقة والإفلات من العقاب، فلن يحرك السوفيات ساكناً لمنعنا... والآن لدينا من خمس إلى عشر سنوات لاقتلاع هذه الأنظمة القديمة الوكيلة للسوفيات -في العراق وسورية وغيرهما- قبل أن يتسنى للقوة العظمى المقبلة (الصين) أن تتحدانا في المنطقة".
عندما قام تنظيم القاعدة بتنفيذ ضربته في الولايات المتحدة في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، استخدمت المؤسسة الأمنية ذلك الهجوم كذريعة لشن حربها المرغوبة منذ فترة طويلة للإطاحة بصدّام حسين في العراق. وعندما اندلعت احتجاجات الربيع العربي بعد عشر سنوات تقريباً، نظرت المؤسسة الأمنية الأميركية إلى الضعف المفاجئ الذي اعترى نظام القذافي ونظام الأسد باعتباره فرصة مماثلة لتثبيت أنظمة جديدة في كل من ليبيا وسورية. أو أن هذه كانت هي النظرية على أي حال.
في حالة سورية، كان حلفاء أميركا في المنطقة أيضاً هم الذين طلبوا من إدارة الرئيس باراك أوباما أن تتحرك ضد الأسد. فكانت المملكة العربية السعودية راغبة في رحيل الأسد لإضعاف الدولة العميلة لإيران، المنافس الرئيسي للمملكة على السيادة الإقليمية. وكانت إسرائيل راغبة في رحيل الأسد لإضعاف خطوط الإمداد الإيرانية إلى حزب الله في جنوب لبنان. وكانت تركيا راغبة في رحيل الأسد لكي يتسنى لها توسيع نطاق نفوذها الاستراتيجي وتثبيت استقرار حدودها الجنوبية.
بعد ذلك، انضم مجتمع حقوق الإنسان إلى جوقة تغيير النظام عندما رد الأسد على مطالبات احتجاجات الربيع العربي بالتحرر السياسي بإطلاق العنان للجيش والقوات شبه العسكرية. ومنذ آذار (مارس) إلى وحتى آب (أغسطس) 2011، قتلت قوات الأسد نحو 2000 شخص. وعند تلك النقطة، أعلن أوباما أن الأسد لا بد أن "يتنحى".
ما نزال نجهل المدى الكامل لتحركات الولايات المتحدة في سورية بعد. لكن الولايات المتحدة قامت، على المستوى الدبلوماسي، بتشكيل ما يسمى تحالف "أصدقاء سورية"، الذي تألف في الأساس من بلدان الغرب والشرق الأوسط الملتزمة بالإطاحة بالرئيس الأسد. وبدأت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية العمل سراً مع تركيا لتوجيه الأسلحة، والتمويل، وتقديم الدعم "غير القاتل" لما يسمى "الجيش السوري الحر" وغيره من الجماعات المتمردة التي تعمل لإسقاط الأسد.
كانت النتيجة هي الكارثة التامة. ففي حين كانت أعداد القتلى تقترب من نحو 500 شخص شهرياً في الفترة من آذار (مارس) إلى آب (أغسطس) 2011، مات نحو 100 ألف مدني -نحو 3200 شخص شهرياً- في الفترة من أيلول (سبتمبر) 2011 إلى نيسان (إبريل) 2015. وبإضافة أعداد القتلى من المتحاربين، ربما يصل الرقم الإجمالي إلى 310 آلاف قتيل، أو نحو عشرة آلاف قتيل شهرياً. ومع استغلال تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجماعات المتطرفة الوحشية لحالة الفوضى التي خلفتها الحرب الأهلية، أصبحت احتمالات السلام أبعد من أي وقت مضى.
أنتج التدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة أو بدعم منها في أفغانستان والعراق وليبيا كوارث مماثلة. فالإطاحة بالأنظمة شيء، وتثبيت حكومات مستقرة وشرعية في محلها شيء آخر تماماً.
إذا كانت الولايات المتحدة راغبة في تحقيق نتائج أفضل، فيتعين عليها أن تكف عن اتخاذ القرارات والتحركات المنفردة. فالولايات المتحدة غير قادرة على فرض إرادتها عسكرياً، ولم تسفر محاولتها القيام بذلك إلا عن اصطفاف دول أخرى قوية، بما في ذلك الصين وروسيا، ضدها. والواقع أن روسيا، مثلها في ذلك كمثل الولايات المتحدة، لديها مصلحة قوية في تثبيت الاستقرار في سورية وإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية؛ ولكن من المؤكد أن السماح للولايات المتحدة بتنصيب أنظمتها المختارة في سورية أو أي مكان آخر في المنطقة سيعمل ضد مصلحتها. ولهذا السبب، كان مصير كل الجهود التي بذلت في مجلس الأمن الدولي لصياغة موقف مشترك بشأن سورية حتى الآن هو التعثر والإخفاق.
لكن تجربة مسار الأمم المتحدة مرة أخرى هي أمر ممكن وحتمي. والواقع أن الاتفاق النووي بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، والصين، وفرنسا، وروسيا، والمملكة المتحدة) بالإضافة إلى ألمانيا، قدم للتو دليلاً قوياً على قدرة مجلس الأمن على القيادة. ولا شك أنه قادر على القيادة في سورية أيضاً، شريطة أن تنحي الولايات المتحدة جانباً مطالبتها المنفردة بتغيير النظام وأن تعمل بالتعاون مع بقية أعضاء المجلس، بما في ذلك الصين وروسيا، على نهج مشترك.
في سورية، لن يتسنى النجاح إلا من خلال الجهود متعددة الأطراف. وتظل الأمم المتحدة الأمل هي الجهة الأفضل المتاحة في العالم -بل أمله الوحيد- لوقف حمام الدم السوري ووقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا.

*أستاذ التنمية المستدامة، أستاذ سياسة الصحة والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، وهو أيضاً مستشار الأمين العام للأمم المتحدة حول أهداف تنمية الألفية. من كتبه: "نهاية الفقر"، "الثروة المشتركة"، وأحدثها "عصر التنمية المستدامة".
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت، 2015.