يفهمون في كل شيء!

كانت إحدى القنوات الفضائية المصرية تبث برنامجاً طريفاً، يجول فيه المذيع الشوارع ليطرح على "ضحاياه" من المارة قضية عامة، ويطلب منهم اختيار أحد ثلاثة حلول مقترحة لها، تكون كلها غير منطقية. والغريب أن معظم هؤلاء "الضحايا" يختارون أحد تلك الحلول فعلاً، وينخرطون في تفسير سبب اختيارهم، وصحته، وضرورة تطبيقه؛ كاختيارهم في إحدى الحلقات بين حلول مضحكة لمواجهة تبعات سرقة أغطية المناهل من الشوارع، منها وضع سور حديدي حول الحفرة التي سُرق غطاؤها لحماية المارة من السقوط فيها، أو تعيين منقذ لإخراج من يسقط في الحفرة، أو تثبيت سيارة إسعاف عند كل حفرة لضمان سرعة علاج من يقع فيها!اضافة اعلان
وما يدل عليه تعامل الناس مع الأسئلة، وجديتهم في الإجابة عنها، هو أنهم يتصرفون كما لو أنهم يفهمون في كل شيء، لدرجة تمكّنهم من الحديث في أي موضوع، لذا يسارعون إلى إبداء رأي يبدو مبنياً على دراية وعمق، وتحليله ومقارنته بآراء الآخرين، وصولاً إلى صياغة استنتاجات قاطعة حوله، حتى إن بعض المستجيبين للأسئلة الطريفة في البرنامج الذي حمل اسم "زي العسل"، يشيرون أحياناً إلى أن الحل الذي اختاروه مطبق في "بلاد برّه"، وأنهم شاهدوه في أسفارهم!
مثل هذا السلوك ليس مقصوراً على مجتمع عربي دون آخر، وهو يشملنا بالضرورة نحن في الأردن؛ فجلّنا يتحدث في كل شيء، ويفتي في كل شيء، ويطلق أحكامه على كل شيء، من دون حاجة لمعلومات وبيانات وطول نظر، بل تكفيه "زوّادته" من مجموعة الانطباعات السائدة، ليوظفها في الوصول إلى "الحقيقة!". ومن هنا تظهر التعميمات المخلّة بالمنطق في أحاديث المجالس، والأفكار المبنية على وهم المؤامرة في "سواليف الحصيدة" التي يتحدث بها "متعلمون" و"كبار قوم" وحاملو درجات جامعية عليا، يظنون أن نجاحهم الأكاديمي في تخصص ما، يمكّنهم من الخوض في أي شيء، حتى وإن سمعوا عنه بالأمس فقط!
هكذا، يمكن بسهولة لمؤلف فطين، أن يضع كتاباً اسمه "الدليل الخالص إلى أحاديث المجالس"، أو "المرشد الأمين إلى فلسفات الملايين"، يسرد فيه بعد بحث ميداني، جدولاً بمجموعة الانطباعات والتعميمات والأحكام الجاهزة، المستعملة في إطلاق التحليلات وبلوغ الاستنتاجات، مثل أن الغرب يتآمر علينا، وأن نوع سيارة محددا هو أحسن سيارة، وأن جميع المخابز تغش الخبز، وأن جميع موظفي الحكومة كسولون وجاهلون، وأن اللاعبين العرب يأكلون مجدّرة قبل النزول إلى الملعب... إلى آخر هذا الكلام الذي يعكس قدراً كبيراً من السخافة، وجرأة كبيرة على التدخل في مختلف شؤون الدنيا، من دون معرفة كافية بها، ومن دون اطّلاع على أدلة ووثائق ومراجع وحقائق!
اللغة الأبوية التي شرحها المفكر الراحل هشام شرابي، حين كان يسهب الحديث عن أبعاد الثقافة الأبوية التي تسود مجتمعاتنا العربية، تقع في خلفية هذا المشهد بالضرورة، وأهم صفاتها القطع في الرأي، فلا يقول واحدنا "أنا أعتقد كذا وكذا" و"رأيي الشخصي كذا وكذا"، بل يذهب مباشرة إلى اعتبار ما يقوله صحيحاً بالمطلق؛ يعكس الحقيقة ويبينها للناس الذين كانوا ينتظرونها من بنات أفكاره النيرة، وعلمه الواسع، وعقله الراجح، وبصيرته الثاقبة، من دون حاجة للتواضع عبر احتمال أن ما يقوله "ربما!" لا يكون صحيحاً!
لا تقل الطرافة، إذن، عند من يتحدثون بلغة الحسم والقطع عن العلاقات الدولية، وأمور البترول، وقضايا الفساد، عن هؤلاء الذين اقترحوا تعيين منقذ لكل "بلاعة": كلّهم "زي العسل"، لكن ثمة منهم من هو عسل ذو لزوجة عالية، ثقيلة الظل.