آثار انتفاضة الأقصى في مؤتمر علمي

محتجون فلسطينيون في رام الله على إعلان ترامب أن القدس "عاصمة إسرائيل" - (أرشيفية)
محتجون فلسطينيون في رام الله على إعلان ترامب أن القدس "عاصمة إسرائيل" - (أرشيفية)

د. جودت أحمد المساعيد

عندما اندلعت انتفاضة الأقصى في أيلول (سبتمبر) العام 2000، واستمرت لعدة سنوات، أحرقت الأخضر واليابس، وتمّ خلالها تدمير البشر والشجر والحجر، بعد مقتل وجرح واعتقال عشرات الآلاف من السكان وتعطيل أعمال وأنشطة وتنقلات مئات آلاف الآخرين، بفعل المعاملات القمعية من جانب سلطات الاحتلال الصهيونية.اضافة اعلان
في ضوء الشكاوى المريرة والمتلاحقة من قطاعات المجتمع كافة حول الآثار السلبية لتصرفات جيش الاحتلال الصهيوني في التعامل ليس مع المشاركين في أنشطة الانتفاضة فحسب، بل ومع عموم الشعب الفلسطيني مطبقا سياسة العقاب الجماعي على الناس، بشكلٍ جعل من عدم دراسة تلك الآثار السلبية من جانب الباحثين والعلماء جريمة كبرى، في الوقت الذي يُعتبرُ فيه إجراء تلك الدراسات نوعاً من أنواع الجهاد بالقلم واللسان. 
هبَ الباحثون الجامعيون ومن جامعة النجاح الوطنية على وجه الخصوص، لتلبية معظم مطالب المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقاموا بإجراء دراساتٍ علميةٍ ميدانيةٍ متنوعة. وكنتُ آنذاك أعمل عميداً لكلية التربية في الجامعة ذاتها، كما كنتُ من بين الباحثين الذين قاموا بتشكيل فريقٍ بحثيٍ لدراسة الآثار التربوية والنفسية للتصرفات الهمجية لجيش العدو الصهيوني على قطاع الطلبة والمعلمين والمديرين والمشرفين التربويين والممرضين وسائقي سيارات الركاب العمومي، وبمجموعٍ من الأبحاث بلغ عددها أحدَ عشرَ بحثاً مدعوماً من عمادة البحث العلمي في الجامعة.
عندما تسلم رئيس الجامعة وقتها د.رامي الحمد الله، المزيد من طلبات دعم الأبحاث التي سوف تتناول آثار الانتفاضة على قطاعاتٍ سكانية أخرى، من جانب باحثين في الكليات المتبقية للجامعة، وضعني في الصورة في ضوء اطلاعهِ مسبقاً على مجريات البحوث التي طبقها الفريق البحثي الذي أشرف عليه، ما دفعني إلى اقتراح عقد مؤتمرٍ علمي كبير حول آثار انتفاضة الأقصى على حياة المجتمع الفلسطيني ككل، فما كان منه إلا أن دعم تلك الفكرة.
قام رئيس الجامعة فوراً بالاتصال هاتفياً بعميد البحث العلمي طالباً منه التعاون مع عميد كلية التربية لعقد مؤتمر علمي حول الانتفاضة، وأن يوضع المقترح على جدول أعمال مجلس البحث العلمي، مع تزويده بالأفكار المناسبة في هذا الصدد. قمت بإعطاء فكرة تفصيلية عن المقترح، وتمت الموافقة على عقد المؤتمر العلمي بعد سبعة أشهر، وتشكلت لجنة تحضيرية برئاستي، وعضوية أستاذ واحد من كل كلية من كليات الجامعة.
بدأتُ على الفور بعقد اجتماعاتٍ متتالية مع أعضاء اللجنة التحضيرية، في الوقت الذي وزعتُ فيه تعميماً على جميع العاملين في الجامعة، أبلغهم بالنية لعقد المؤتمر، واستعداد اللجنة لاستقبال أي بحث علمي يدور حول آثار الانتفاضة، مع التأكيد على أن البحوث سوف تخضع لقواعد التحكيم العلمي من جانب مقيمين متخصصين من داخل الجامعة وخارجها وباستخدام المراسلات الإلكترونية.
تم تصميم مطوية خاصة بالمؤتمر تحت عنوان "آثار تصرفات جيش الاحتلال على الشعب الفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى"، مع المحاور والأهداف، كما تم إعداد قاعدة بيانات لحصر عناوين المراسلات الإلكترونية لجامعات العالم العربي، تمهيداً لإرسال المطوية لهم على جناح السرعة. وقد تم ذلك بالفعل بعد فترةٍ وجيزة، تلاها التحضير لترتيبات استقبال البحوث، وتوزيع تعميمٍ جديد في جامعة النجاح الوطنية، وجامعة القدس، وجامعة بير زيت، والجامعة الأميركية في جنين، وجامعة الخليل، وذلك للاستفسار عمن يرغب من أعضاء هيئة التدريس في المشاركة بعملية تحكيم البحوث مجاناً، لنفاجأ بأعدادٍ تكاد تكون كاملة، لأن الجميع اعتبروه واجباً وطنياً يخدم في نهاية المطاف قطاعات الشعب المتضررة. 
وتمت مخاطبة مؤسسات وشركات القطاع الخاص الفلسطينية طلباً للدعم المادي، ولا سيما تلك التي تقع داخل مدينة القدس أو داخل المنطقة المحتلة للعام 1948، ممن يسري عليها نظام الاحتلال الدائم، وقد أبدت جميعها استعداداً تاماً للمساهمة.
وما أن مضت الشهور الأربعة الأولى، حتى بدأنا نستلم البحوث الفعلية، ولا سيما من الباحثين الذين كانوا يطبقون دراساتٍ ميدانية قبل الإعلان عن المؤتمر، وكانوا قطعوا شوطاً لا بأس به في إنجازها، وكان هؤلاء في مجملهم من الضفة الغربية وقطاع غزة، لأنهم كانوا يرون المعاناة الحقيقية من التصرفات الصهيونية ليل نهار. وعند عرض الأبحاث على اللجنة، تم اختيار المحكمين وإرسالها لهم إلكترونيا، والطلب منهم أن يُعطوها الأولوية.
وما أن اطلعت وسائل الإعلام بطريقة أكثر تفصيلاً عن المؤتمر وأنشطتهِ المتنوعة، حتى بدأت شخصيات تتصل بي من داخل فلسطين المحتلة ومن منطقة القدس، مثل معالي الدكتورة حنان عشراوي، وبعض أعضاء الكنيست العرب آنذاك وعلى رأسهم السادة أحمد الطيبي، وطلب الصانع، وهاشم محاميد، وعبد الوهاب الدراوشة، وجميعهم أبدوا استعدادهم الفعلي لحضور افتتاح المؤتمر وبعض فعالياته.
ومما أثلج الصدر، استلام اللجنة التحضيرية فيما بعد للعديد من الأبحاث من خارج فلسطين، وبالذات من الأردن ومصر ولبنان وسورية وتونس والعراق، وبعددٍ من الأبحاث والمقالات بلغ (64) بحثاً ومقالاً، رفض المحكمون (18) منها ووافقوا على (46). وقد تناولت قضايا تربوية ونفسية وزراعية وتجارية وسياسية وإعلامية وصيدلانية وهندسية.
عندما اقترب موعد افتتاح المؤتمر، تمّ تصميم برنامج الافتتاح، مع عمل جدولٍ تنظيميٍ لتوزيع البحوث على قاعاتٍ متعددة داخل الجامعة، ضمن كتيب صغير تمت طباعته في مطابع الجامعة، وضمن أوقاتٍ محددةٍ ولمدة ثلاثة أيامٍ متتالية. وقد تطوعت المطاعم والمؤسسات القريبة داخل مدينة نابلس بتزويد المؤتمر باحتياجاته من الطعام والشراب، في حين وصل الجامعة دعم من بعض المؤسسات التي استعدت لذلك من قبل.  
اكتملت الاستعدادات لافتتاح المؤتمر، رغم الظروف الصعبة التي كانت تعيشها البلاد من تصرفات جيش الاحتلال الوحشية. وقبل أسبوع واحدٍ فقط على الافتتاح،  حصل ما كنا نخشاه، إذ اجتاحت جحافل الدبابات الصهيونية مدينة نابلس كاملة أيام رئيس الوزراء (شارون)، استمرت شهراً كاملاً، حصل خلاله الكثير من القتل والتدمير والتشريد والاعتقال وتقطيع أوصال البلاد، مع التعطيل الكامل للمؤسسات والجامعات والوزارات، واعتقال القادة المشهورين أمثال مروان البرغوثي، وأحمد سعدات وحسن يوسف وغيرهم، وتم للأسف الشديد تجميد فكرة افتتاح المؤتمر في ضوء الظرف الصعب.
في ضوء المستجدات الخطيرة، قمتُ بكتابة خطابٍ رسمي إلى جميع الباحثين ممن حازت بحوثهم على موافقة المحكمين، أشجعهم فيها بإرسال تلك الأبحاث إلى مجلاتٍ محكمة مقرونة بخطاب القبول من جانب لجنة تحكيم المؤتمر. وبالفعل تمّ نشر معظمها في دوريات علميةٍ محكمةٍ ومن بينها أحدَ عشرَ بحثاً لي مع أربعة من الباحثين الآخرين، والتي تمّ نشرها في المجلات المحكمة الآتية: مجلة دراسات الصادرة عن الجامعة الأردنية، ومجلة جامعة النجاح الوطنية، ومجلة جامعة القدس، ومجلة اتحاد الجامعات العربية، ومجلة مركز البحوث التربوية بجامعة قطر، ومجلة جامعة الزيتونة الأردنية، ومجلة جامعة الزرقاء.
باختصارٍ شديد، من واجب الأستاذ الجامعي، إذا عاصرَ ظاهرةً اجتماعيةً ما، تؤثر سلباً على حياة المجتمع الذي يعيش فيه، أن يدرسها دراسة علمية دقيقة، وأن يعمل جاهداً على نشرها في دورياتٍ علميةٍ مُحَكَمة، وأن يطالب فوق ذلك بعقد مؤتمرٍ علمي لتناول جوانبها كافة، لكي يوثقها للأجيال القادمة من جهة، ويقوم بواجبه البحثي والوطني استكمالاً للرسالة التي ينبغي أن يؤديها بصدقٍ وأمانةٍ من جهةٍ ثانية.