أبعد من العراق وسورية

يكاد يكون هناك إجماع، يحكم الاستجابة الفعلية الإقليمية والدولية، على أن التنظيمات المتشددة والإرهابية، تستفيد من الفراغ الذي تخلقه الصراعات الداخلية، فتتحرك هذه التنظيمات لملئه. هكذا فعلاً ظهرت حركة "طالبان" من أتون الحرب الأهلية الأفغانية عقب الاندحار السوفيتي؛ وهكذا الآن يشتد عود تنظيم ما يسمى "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق، وسورية بشكل أكبر. اضافة اعلان
ووفق هذه الرؤية، يتم التركيز على تجنب هكذا فراغ، أو استدراكه، من خلال عمليات عسكرية فعلية وتسويات سياسية مأمولة في العراق، وتفكير قريب من ذلك ربما للتعاطي مع المأساة السورية في ذات الإطار.
لكن نظرية "ملء الفراغ" هذه تعني أيضاً، وبشكل بدهي، أن تنظيمات من مثل "داعش"، موجودة ما قبل الفراغ الذي تتحرك لملئه. وهذا الوجود قد يكون "كامناً" وليس تنظيمياً كاملاً، وهو كذلك غالباً، لكنه يتبلور بهذا الاتجاه، وبشكل سريع، نتيجة علاقة تعزيز متبادلة بين الفكر والأرض "الخارجة عن سلطة الدولة".
استذكار هذه البدهية، إنما المسكوت عنها، يبدو حاسماً في استئصال "داعش" اليوم، وبما يعني حتماً أن المعركة ضد التنظيم وأشباهه لا يمكن أن تقتصر على حدود العراق وسورية، حيث الفراغ الذي يُبرز التنظيم؛ بل لا بد أن يمتد إلى حيث يوجد التنظيم كامناً بانتظار فرصة الظهور. ويزداد هذا المطلب منطقية، كما إلحاحاً، من حقيقة أنه "داعش" وأمثاله لا يعترف بالحدود؛ ليس فقط لأسباب تتعلق بالبحث عن مزيد من الموارد، بل الأهم أن هذا الرفض يقع في جوهر الأيديولوجية الجامعة لمقاتليه من أقطار الأرض كافة تحت مسمى "الأمة الإسلامية" التي يجب أن تضمها، أو تنتصر لها في كل مكان، "الدولة الإسلامية"، ولو بالعنف والإرهاب.
ذلك يفضي إلى نتيجة واحدة، مفادها أن التسويات السياسية، أو بعبارة أدق، "الإصلاح السياسي"، لا يجب ولا يمكن أن يقتصر على بلدان الصراع، وهي العراق وسورية الآن تحديداً. بل هو إصلاح لا بد أن يشمل الدول العربية كافة، كما دول إقليمية أخرى.
لكن حتى إزاء هذه الحقيقة، تظهر الرغائبية والانتقائية في المطالبة بالإصلاح، بزعم أن دولاً عربية سُنية محددة هي المسؤولة عن ثقافة "داعش" بحكم تبنيها مذاهب أو مدارس فقهية معينة. ولعل أول ما يمكن الرد به هنا التباين الصارخ في عدد أعضاء "داعش" القادمين من دول تتبنى ذات المدرسة الفقهية السلفية المتشددة التي يفترض أنها مسؤولة وحدها وبذاتها عن العنف والإرهاب! كذلك، لا يمكن أن يصمد هذا التفسير أمام حقيقة أن أكبر مزود أوروبي لتنظيم "داعش" بالمقاتلين، وفق الإحصاءات الصادرة عن المركز الدولي لدراسة الراديكالية والعنف بلندن، قبل أيام، هي روسيا التي لم يعرف تساهلها، منذ الاتحاد السوفيتي، وبأي درجة كانت، مع هكذا فكر سلفي جهادي.
يضاف إلى ذلك، ولعله الأهم، أن مثل هذا التفسير الأحادي "الثقافي" (وهو استشراقي في الحقيقة)، يتناقض تماماً حتى مع الحجة/ الذريعة التي يروجها أنصار هذا التفسير ذاتهم، عن مسؤولية العدوان والاحتلال الخارجيين، لاسيما الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ولاحقاً الاحتلال الأميركي للعراق، عن بروز التطرف في العالم العربي. وهذا ما يستدعي الحديث عن التطرف العربي "السُني" كرد فعل ونتيجة طبيعية أيضا للدور الإيراني المدمر في المنطقة؛ حيث ترتكب المليشيات الشيعية المدعومة من طهران ذات فظائع "داعش" (السُنّي)، إنما بلا عدسات كاميرات!
بالمحصلة، يكون صحيحاً فقط أن استئصال "داعش" تنظيماً وفكراً، يقتضي إصلاحا داخلياً في كل دول المنطقة، كما إصلاحاً في سياسات الدول الكبرى الخارجية تجاه قضاياها الكبرى.